الكلمة التي القيتها في مهرجان ذكرى وصفي:
فالكلام عن الكبار لا يكون سهلا ، والمفردات المتاحة لاتعطيهم حقهم، ويبقى دوما في النفس احساس بالعجز، لان الجبال لاتوزن بالقبان والكلمات تعجز عن وصف العِظام، ويقف الزمن عندهم ليس لأنهم خارقون، بل لأنهم على الأرض واقفون ومغروسون، فيتناقل الناس سيرتهم ليس لغرابتها، بل لانها لامست اوجاعهم وشابهتهم ... هذا هو وصفي كما وصفوه، اكبر من رئيس وزراء وأقل من ملك ، ولم يصل لهذه المرتبة الا بوطنيته التي مارسها حتى النخاع ، ينام ويصحو مسكونا بها حتى ارتقى شهيدا في سبيلها....
ما زلت اذكر ذلك المشهد ، ولم تمحه ٥٤ عاما ثقيلة مضت، وما زال يَفعل فِعله بالذاكرة ولم يخبو انينه بالرغم من تراكم الاحداث و التفاصيل وتشعبها، فما زال المشهد ماثلا....
وكأن الدم لم يجف بعد.
كنت طفلا لم يتجاوز الثامنة عندما حضر اخي الاكبر للبيت حاملا بيده كيس برتقال، ومستفسرا عن سبب الوجوم فبادرته والدتي بالخبر المفجع (وكنا للتو قد سمعناه من المذياع)تقول وهي تجهش بالبكاء:طخوه ، طخوا وصفي يا يوسف....عندها لم يتمالك نفسه وسقط كيس البرتقال من يده وتناثرت حباته....واختلطت الدموع مع الاسى والحنق ونواح امي وهي تمعد وتقول: نرعى بمراعيهم لنهم بعيدين ونام ليل لو الضواري تحوفه.
مشهد مهيب ما زال مختزلا يستدعيه القلق بين الحين والآخر فعندما تشتد الظروف، ينتابنا الحنين....وأي حنين؟.
تبا لتلك النيران....... (الصديقة) التي ذهبت برجل افنى عمره وهو يقاتل من اجلها،
عسكريا محترفا...
وسياسيا محنكا....
وإداريا ناجحا...
لكنه ذهب وهو حرا ابيا مقداما لم يجدع انفه لآخر نبضة، ولسان حاله يقول لقاتليه عندما وجهوا فوهات مسدساتهم له:
" أنا أمامكم فافعلوا ما تشاؤون ...
مجردا من سلاح ...
ألقاكم بصدري العاري ...
ولن أخاصم أحدا إلا بفروسية ....
يكفي خسّة ونذالة ان تقتلوا امرءا بلا سلاح ،
أن تقتلوه غيلة،
أن تغدروه وقد جاء من اجلكم بلا تردّد, رغم توقّعات غدركم ...
أنتم الموتى، وسيلعنكم الأتي بعد فعلتكم...
أما أنا فسيذكرني أبنائي واحفادي ، وكلّ شعبي بالمجد، وسيتباهون بأبيهم وأخيهم وابن عمّهم الذي ما هرب ، وما جبُن، وما تردّد بأن تلقّى الموت بصدره العاري وهو يحمل وطنه بين عينيه ، ودفع ثمن رجولته عندما ترجّل كبيرا
وصفي، هذه الشخصية النادرة التي تتنامى سيرتها وتتعاظم يوما بعد يوم ،وقد حظي هذا الرجل ( رغما عن قاتليه) بيوم ميلاد آخر ..... ١٩٧١/١١/٢٨ يوم استشهاده ...لكنه فعليا، يوم آخر لميلاده .....وتجسيد ووضع النقاط على افكاره ومبادئه ومشىروعه الذي بدأ ولم يكتمل، وينتظر من يكمله...
في هذا اليوم وما ان استقرت الرصاصات في جسده ، حتى استقرت سيرته وفلسفته واسلوبه بالحكم والادارة امام كل مناضل وكل رجل دولة ليحتذي بها ويقتدي ،ويكمل مسيرته...
لبس الفوتيك وببندقيته ناضل على ثرى فلسطين، وعندما تولى الحكم ناضل ايضا، فالنضال لا يتجزأ ولا يرتبط قسرا بالبندقية و استلم بحق زمام الولاية العامة بكل اقتدار واوسعها مهابة وكبرياء وتواضع، واتخذ قراراته بكل فروسية وشجاعة لا تأخذه بالوطن لومة لائم، شيد نمط حكم وادارة بعد ان شيد بعهده معظم المؤسسات الوطنية التي شكلت عماد الدولة الحالي...مبدعا خلاقا يسبر اغوار المستقبل، ويستشرقه بفكر وعين بصيرة تخدم مشروعا يدور بذهنه، وضع حجر اساسه وينتظر من يكمل مداميكه، ويقول :عند الوطن، فالخطاء والخيانة سيان، ومن يتربع على كرسي المسؤولية ليس له هامش خطاء ولامبرر له اطلاقا، وإن اخطأ فليُحاسب ويتنحى مباشرة.
احبه الحسين وآمن ووثق به واطلق يده بالحكم، داعما وموجها، وقابل وصفي هذا الحب بحب وبوفاء وولاء قل نظيره ، حتى انه عندما عرض السفراء الامريكي والبريطاني على الحسين مغادرة البلاد لفترة حفاظا على حياته ذات احداث عصفت بالبلاد... فاستشار جلالته وصفي بذلك فقال له : فشروا بنقعد بالبلد بنحيا هون وبنموت هون.
فوق كل ذلك واكثر، كان شخصية ودودة محببة متسامحة لا يضع اي حواجز بينه وبين عامة المواطنين،وله قصص ونوادر حول ذلك لا تحصى اكتفي بواحدة وقس عليها كما تشاء، حيث انه كان ذاهبا لعمله بالرئاسة وكان الجو ماطرا فأوقفه احد المواطنين ( وكان يقتاد عنزا)ولم يعلم انه رئيس الوزراء ، لكنه استجاب له واوعز للحرس بتحميله وعنزه ايضا ، وعندما وصلوا للرئاسة اصبح المواطن يستغيث ويقول وين بدك تتركني هون بهالجو ؟خلي جماعتك يودوني عالماقف( مكان تجارة الحيوانات) بدي ابيع العنز وادبر حالي، فاستجاب له واوعز للحرس بايصاله.
رحم الله الشهيد الحي دولة وصفي التل . وعلى مثلك فلتبك البواكي، ويمهدبات الهدب ابكن على وصفي..
وختاما اقول لشيختنا المهابة الوادعة( ملتفتا لاخته وصفية) ...قد تفاخرت ليلى التغلبية ذات يوم انها بنت الزير وام عمرو ابن كلثوم... وانت لست بأقل منها، فيكفيك فخرا أنك بنت عرار واخت وصفي