ليكن الوطن ما يكون، تبقى حالته فيك مثل حبيبة قضت، ما تنفك أن تتخلص من جذورها المتغولة في وجدانك، و مهما حاولت الالتفاف عليها بآليات الدفاع النفسي، من كبت أو إنكار أو غضب أو تحويل انفعال أو اشغال، ستبقى تحبها و إن طالت السنين أو رددت إلى أرذل العمر !
أتفهم أن كثيرا منا مر بذلك الحب، و أعلم تماما أن هنالك فترة انفصال اختبرها كل متعلق بذكريات مسلسل المساء بعد النشرة، و ببساطة الحياة و بركة الراتب،و أجزم أن كل مرهف لجأ لآلية دفاع نفسي ليتعامل مع ألم غياب صورة الوطن الأصيل.. و لكن لا فائدة .. مأ أن أشارت إليك و لاحت مبتسمة طلات أمله من جديد، فستعود! تعود رقيقا هشا أكثر مما كنت!
مع تكرار خيبة الأمل فالتنفيس مشروع، و في ذروة الإحباط و تخبط السبل فالكلام و مشاركة الشعور يمنح المواساة!
و الوطن مؤلم جدا !
لكن هنا، ينقسم المحبون نوعين: من يتمسك بالمبادرة حسبما يستطيع و يوجه الطاقة لأمر بناء و يصنع بوصلة في ظل اللاتجاه، و أخر يتبنى هوية الضحية الناقم و يشير نحو أي شيء إلا دوره في المبادرة و يصبح مع الزمن مستفيدا من ذلك إما لسهولة لوم اللآخر و الحظ عوضا عن جهد المبادرة، أو أن تصبح تلك الهوية وسيلة للحصول على الانتباه الاجتماعي!
هكذا يقول علم النفس بالتقريب البسيط و يمكن الاستفاضة أكثر!
عندما يصبح اللاجهد و اللامبادرة و لوم الآخر على كل شيء هوية، من الصعب أن تقتلعها من صاحبها، فمعها يصبح "لا أحد"! فاقتلاعها يعني أن يشارك بإيجابية لم يطور مهاراتها فيراها صعبة مقلقة، أوأن يغرق في ألم الشعور بالاكتئاب المزمن!
ذات القصة يعشيها كل وطن .. كل وطن مر بألم التعثر ... كل وطن مر بتخبط المسار .. و كل وطن مرة بانتكاسة اصلاح!
كل وطن حرق قلب محبينه ألما عليه !
الأردني المحب شديد الحساسية و الرهف، يقولون عنه معارض شديد و عندما عرضوا عليه المنصب باع المعارضة و انقلب، لكنني أراه محبا كبت حبه و أظهر الغضب، و لما لاحت له فرصة التعبير عن الحب بالاصلاح، عاد لحبه الاصيل!
ما زال معتقدي لا يستوعب أن هناك من يكره الوطن إذا أحبه أصلا، لكنه مع طول الإحباط قد يكون تحول دون أن يدري و تقمص "هوية اللائم لهؤلاء" اللذين يديرون شأن الوطن العام!
مع "هوية اللائم لهؤلاء" ، تنشأ عادة تلازم صاحبها، و هي السرد من نفس المحتوى حتى وإن ظهرت الأدلة غير ذلك أمامه!
أراهن ان أكثر من يتحدثون عن البلد بقسوة هم من أشد محبيه في داخلهم، لكنهم لم يعوا أن الألم قد حول طاقة الحب تلك إلى طاقة مناخ سلبي – انتقائي للنواقص في محتواه- يزرع الشك و الخيبة و التشاؤم و القلق في نفوس العامة البسطية!
يقول علم النفس أن هناك ما يسمى بالمتلازمة، أي أنه سلوك متكرر قهري يرافق و يلازم الانسان و ينتج له المعاناة و البؤس!
والحديث بسلبية عن الأردن قد وصل درجة المتلازمة عند الكثرين (من المحبيين)، و أخشى أنه قد أصبح أو في طور أن يصبح ثقافة العامة !
المتلازمة ثم تشكل "المفهوم الذاتي" أي ما يعتقد الانسان عن نفسه، و هو أصل الدافعية للسلوك، فإذا ما اعتقد أن يستحق و يستطيع، فإنه يبادر و يمتلئ شفغا لصناعة الاجمل له ولمن يحب، و إذا ما رسخ غير ذلك عن ذاته، فلك أن ترى الاحجام و التشاؤم و غياب الانتاج!
وأقول لكل أب و أم و أخ و أخت و غيور على الناس: هل متلازمة جلد الوطن ستصنع فيمن تحب مفهوما ذاتيا بناء بانه أردني ليفخر بنفسه و تتحرك فيه قابلية الحياة و المبادرة والعطاء و البناء لمستقبله؟ أم أنها ستملؤه خزيا بأنه أردني يعيش في وطن فاشل بائس مع فاشلين بائسين بكل ما لذلك من تبعات على سعادته و حياته و مستقبله!
ماذا تختارون .. و ماذا ستصنعون بانائكم باختياركم سرديتكم عن الوطن!
أنه مصيرنا في المستقبل التي تقرره سرديتنا اليوم! أنها مصلحتنا جميعا، أنها حياتنا سوية! إنه المكان الوحيد الذي لن يعاملك غريبا قادما!
إن فقدان النعم أو فقدان الاستمتاع بها إذا ما وجدت، ينتج عن أخذها مسلمات لا ترى و لا تشكر و لا تقدر! و أتفهم أن استدامة النعم هي أحد أسباب أن تصبح مسلمات ! فهل أصبحت وفرات الاردن مسلمات لا ترى!
و لن أذكر ديباجة الأمن و الأمان لأنها – و مع انها أساس النعم- ستثير سخرية المصابين بالمتلازمة!
لكني أشير أن هناك بنية تحتية تؤدي الغرض – مع وجود المطبات، و تعليما جيدا جعل الخليج و العالم يستقطب موارده البشرية مع أنه ليس في أفضل حالاته، و صناعة جيدة تصدر للعالم لكنها تواجه صعوبات الكلف بسبب الضرائب، و محاكم نزيهة لا تشترى غالبا مع أنها تخطئ أحيانا، و خدمات الكترونية حكومية تتطور مع أنها لم تصل لذروة التحول الرقمي، و تأمينا صحيا للصغيرو الكبير مع انك مازلت تحتاج أن تتقدم إلى إعفاء أحيانا إن كنت شابا في القطاع الخاص، و راتب ضمان اجتماعي ينزل على الوقت – مع أن حكومة استدانت منه و لم تسده بعد، و استقرارا سياسيا بفضل حكمة القيادة في بؤرة تكاد تكون الاكثر اشتعالا في العالم، و الأطفال يصورون الصواريخ تعبر من فوق الوطن و كأنها ألعاب نارية و ينامون مطمأنين، و معارضون للنظام يدخلون و يخرجون .. لكنهم لا يختفون !
هنالك الوفرات في الوطن لا تخلو من النواقص، لكن النواقص ليست كل ما هو هنالك في الوطن! و نواقص الوطن ليست الا حالة يمكن تغييرها بالتدريج و التروي و المبادرة شعبا و قيادة، و بتوفيق الله و ما يهيؤ من أسباب.
هذه نقطة وعي، نقطة فارقة لكل محب، ليقرر أن يفتح قلبه للحب في الوطن من جديد، أو يحول طاقة المتلازمة لطاقة مبادرة و عقلانية في الامتنان للوفرات و الاعتراف الشجاع بالنواقص و المبادرة للعمل نحو التحسين المستمر.
والله ولي التوفيق