التعليم المهني في الأردن .. نحو إنتاج الكفاءة وبناء المستقبل
فيصل تايه
02-12-2025 11:01 AM
استوقفني قبل أيام تصريح مهم لأمين عام وزارة التربية والتعليم لشؤون التعليم المهني والتقني الدكتور محمد غيث ، والذي تحدث بثقة عن توجه الوزارة لرفع نسبة التحاق الطلبة بالتعليم المهني إلى ٥٠% بحلول عام ٢٠٣٢، وعن توسعها في تطبيق برنامج بيرسون البريطاني (BTEC)، وحرصها على تطوير تخصصات نوعية تستند إلى حاجات السوق، وهو حديث بدا لي منسجماً تماماً مع رؤية الدولة للتحديث الاقتصادي وبناء اقتصاد إنتاجي قائم على الكفاءات لا على الانتظار.
وبصراحة، فان هذا التصريح يشعرنا بأننا نقف أمام منعطف تربوي مهم، خاصة فيما يتعلق بإعادة التفكير في الطريقة التي ننظر بها إلى المدرسة وإلى مستقبل أبنائنا ، فالتعليم المهني اليوم لم يعد مجرد خيار إضافي، بل أصبح ضرورة وطنية تتواءم مع الاتجاهات العالمية التي شهدتها عن قرب خلال زياراتي واطلاعي على التجارب الأوروبية، وخاصة التجربة الألمانية والنمساوية التي تقوم على الدمج العميق بين المدرسة وسوق العمل، وعلى إعلاء قيمة المهارة بوصفها جواز مرور إلى مستقبل مهني مزدهر، لا مجرد خيار لمن لا يجد طريقاً آخر ، وقد لاحظت شخصياً أن هذه الدول لا تتعامل مع التعليم المهني كخيار ثانوي، بل كمسار استراتيجي، حيث ينشأ الطالب منذ البداية ضمن بيئة تربوية صممت لتعكس احتياجات سوق العمل الحقيقي، وتوفر له فرص التدريب والتوجيه، وتبني لديه ثقافة الإنتاج والكفاءة منذ اليوم الأول ، هذه التجربة تعلمنا أنه بالإمكان استلهام هذه النماذج العالمية بما يتناسب مع واقعنا الوطني لتعزيز قدرات مدارسنا المهنية، وربط التعليم بالفرص الحقيقية في الاقتصاد الأردني.
ومن هنا، فإن رفع نسبة الالتحاق بالتعليم المهني ليس هدفاً عددياً ، بل هو تحول جوهري في فلسفة التعليم نفسها، وتحويل المدرسة من فضاء تكديس للمعلومات إلى مؤسسة تصنع الكفاءة وتطلق طاقة الإنسان نحو العمل والإنتاج ، كما وان ما يلفت الانتباه أن هذا التحول يتقاطع مع توجهات الدولة الواضحة في رؤيتها للتحديث الاقتصادي، التي تراهن على مهارات جديدة لا على شهادات تقليدية، وعلى اقتصاد مرن قادر على خلق فرص عمل قائمة على التكنولوجيا والابتكار والصناعات الإبداعية، وهذا ما يضع التعليم المهني في قلب المشروع الوطني لبناء المستقبل.
لكن الوصول إلى هذا الهدف يتطلب مقاربة شمولية تبدأ من المجتمع نفسه ، فليس كافياً أن تطور الوزارة برامجها إذا ظلت النظرة إلى التعليم المهني مشوبة بالتردد أو مرتبطة بثقافة قديمة ترى فيه “خيار الضرورة” ، ما لم يشعر الطالب وأسرته بأن التعليم المهني طريق إلى مستقبل مضمون وقيمة مهنية وكرامة وظيفية، فلن يزداد الإقبال عليه مهما حدثنا الورش وطورنا المناهج ، ولذلك لا بد من خطاب وطني صادق يعرض نماذج نجاح حقيقية ويُظهر قصص شباب استطاعوا بناء مسارات مهنية واعدة ، وهنا نحتاج أن نتعلم مرة أخرى من تجارب الدول المتقدمة التي جعلت التعليم المهني خياراً أولياً لا ثانوياً، من خلال تكامل بين المدرسة والصناعة وشراكات تضمن للطالب تدريباً عملياً حقيقياً ووظيفة محتملة بعد التخرج.
وفي المدرسة، ينبغي إعادة تعريف بيئة التعلم لتصبح بيئة قائمة على التطبيق والتجريب والمشاريع والعمل الجماعي، لا على التلقين والورقة والقلم ، فالمعلم المهني في المستقبل ليس مجرد صاحب خبرة تقنية، بل هو قائد تربوي قادر على نقل الخبرة إلى الطالب بلغة تطبيقية حديثة ، وهذا يتطلب تدريباً مستمراً ومفتوحاً على التكنولوجيا الجديدة، وشراكات مع المصانع والشركات تمكن المعلمين من الاطلاع على أحدث الممارسات حتى يظلوا قادرين على مواكبة التغيرات السريعة في سوق العمل ، وقد لمست هذا الجانب بقوة خلال اطلاعي على المدارس المهنية في المانيا والنمسا، حيث يعد المعلم نفسه جزءاً من القطاع الإنتاجي، ويتلقى تدريباً تطبيقياً دورياً يجعله دائماً على تماس مباشر مع التطورات الصناعية.
ولا يمكن لأي منظومة تعليم مهني أن تتقدم دون بنية تحتية مرنة ورشيقة ومجهزة كما ينبغي ، فالطالب الذي يتعلم على أدوات قديمة لن يشعر بقيمة المهارة، ولن يكون قادراً على دخول سوق العمل وهو ينافس الآلة الحديثة والتقنيات الجديدة ، وهذا ما يجعل تحديث الورش والمختبرات ضرورة وطنية، وليس مجرد تحسين شكلي ، وفي هذا السياق، يشكل برنامج BTEC نقلة نوعية لأنه يقوم على مشاريع حقيقية ومعايير عالمية، وينقل التعليم المهني من نطاق التدريب التقليدي إلى نطاق التعليم التطبيقي المتقدم الذي يتيح للطالب أن يتعامل مع مشكلات واقعية ويبتكر حلولاً لها.
وتبقى الشراكة مع القطاع الخاص هي حجر الأساس في نجاح أي تجربة مهنية، فالتعليم المهني الحقيقي لا يمكن أن يعيش داخل المدرسة فقط، بل يحتاج إلى جسور قوية تربطه بسوق العمل، حيث يتدرب الطالب في بيئات إنتاجية حقيقية، وتستفيد الشركات من طاقات الطلبة، وتساهم في تطوير المناهج، وتقدم تغذية راجعة مستمرة تبقي البرامج التعليمية متجددة وواقعية ومرتبطة بحاجة الاقتصاد ، وهذا الاتجاه هو ما تتجه إليه الوزارة الآن عبر خططها الخمسية، وهو ما يشكل انسجاماً كاملاً مع رؤية الدولة لبناء اقتصاد يعتمد على رأس المال البشري المتقن لمهاراته.
إن الوصول إلى نسبة ٥٠% بحلول عام ٢٠٣٢ لن يتحقق بقرار أو توجيه، بل بعمل تراكمي متواصل، وبحوكمة واضحة، ومتابعة دقيقة، وإيمان عميق بأن المستقبل لا يصنع بالشعارات، بل بالكفاءة والإنتاجية والمهارة ، وعندما تتكامل الأدوار بين الوزارة والمدرسة والبيت والقطاع الخاص والمجتمع، يصبح التعليم المهني ليس مجرد مسار تعليمي، بل مشروعاً وطنياً طويل المدى، ورافعة تنموية حقيقية تفتح أمام شبابنا آفاقاً واسعة.
وعندها ، سيكون عام ٢٠٣٢ ليس موعداً رقمياً في خطة حكومية، بل محطة وطنية نحتفل فيها بقصة نجاح جديدة كتبها شباب يمتلكون المهارة، ويؤمنون بأن التعليم كان بوابتهم إلى المستقبل، وأن دولتهم كانت الرصيد الذي دعمهم وفتح أمامهم طريق الإنتاج والإبداع.
والله ولي التوفيق