المثقف والسلطة .. تكامل أم تناقض وتنافر
د. محمد بزبز الحياري
03-12-2025 10:59 PM
كثيرا ما يُساء فهم دور المثقف وعلاقته بالسلطة وكذلك يساء فهم دور القائمين على السلطة وعلاقتهم بالمثقفين، من ناحية ٱخرى ينسحب سوء الفهم هذا على دور رجل السلطة نفسه وخصوصا اذا كان مثقفا قبل ان يتولى زمام السلطة.
العلاقة بين المثقف والسلطة من أكثر العلاقات تعقيدًا وتوترًا في تاريخ الفكر الاداري والسياسي والاجتماعي. ويمكن الاحاطة بفهم هذه العلاقة نوعا ما عبر ثلاثة أبعاد رئيسية:
_ المثقف كناقد للسلطة: وهذا الدور هو الأكثر شيوعًا في الوعي الجمعي العام. فالمثقف يُفترض أن يكون حاملًا للقيم والمبادئ والمثل العليا، مستقلًا فكريًا، مناصرًا للحرية والعدالة، لذلك غالبًا ما يقف في موقع النقد تجاه ممارسات السلطة، خصوصًا عندما تنحرف عن مصالح المجتمع أو القيم الإنسانية، وهذا الدور قد يضعه في مواجهة مباشرة مع السلطة، ويؤدي إلى التضييق أو الإقصاء له في احيان كثيرة.
_ المثقف كأداة للسلطة: في المقابل، قد تنجح السلطة في استقطاب المثقف عبر المناصب أو الامتيازات وتسخير معرفته لتبرير سياساتها الخاطئة، أو لصناعة خطابها الإعلامي، هنا يتحول المثقف إلى ما يسميه البعض “المثقف المروِّج” أو “المثقف الرسمي”،وتصبح وظيفته حماية النظام القائم، بدلاً من الدفاع عن الحقيقة.
_ المثقف كوسيط أو شريك نقدي: هناك أيضًا وضع ثالث، أكثر تعقيدًا وهو الاقرب للدور الحقيقي، وهو المثقف الذي لا يعادي السلطة ولا ينخرط في خدمتها بنفس الوقت، بل يسعى إلى التأثير عليها من موقع مستقل، يقدِّم المشورة، ويضغط من أجل الإصلاح، ويحافظ على مسافة نقدية موضوعية ومنهجية، وهذا النموذج يحتاج أولا إلى سلطة تتقبل النقد، ومثقف يوازن بين المبادئ التي يطالب بها والواقعية التي تفرض نفسها على الارض.
وهناك نماذج مثالية وضعها بعض من المفكرين والفلاسفة لعلاقة المثقف بالسلطة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
غرامشي: تحدث عن “المثقف العضوي” الذي ينخرط مع قضايا الناس ويعارض الهيمنة.
سارتر: رأى أن المثقف مسؤول أخلاقيًا عن قول الحقيقة حتى لو كانت مؤلمة، له وللسلطة.
إدوارد سعيد: أكد أن المثقف يجب أن يكون “منفيًا( مجازيًا)عن السلطة كي يحافظ على استقلاليته.
هنا نبدأ بالاسئلة المشروعة لنلامس جوهر الحقيقة قدر الامكان:
لماذا هذا الاضطراب بالعلاقة؟
وللاجابة على هذا السؤال لا نذيع سرا اذا قلنا ان السلطة بطبيعتها تميل إلى الاحتكار والسيطرة والحساسية تجاه النقد، والمثقف بطبيعته يميل إلى السؤال والنقد، ولذلك ينشأ توتر دائم بين الحاجة للطاعة والحاجة للحرية.
اذا فالعلاقة بين المثقف والسلطة ليست ثابتة، بل تتأرجح بين النقد والخضوع والشراكة الحذرة، وتظل قوة المجتمع المدني وحرية التعبير ومتانة المؤسسات ( بكافة اشكالها)عوامل أساسية في تحديد شكل هذه العلاقة وإتساقها او تنافرها.
والسؤال الثاني الذي يطرح نفسه بقوة، هل هناك تناقض بين دور المثقف ودور رجل السلطة؟.... والذي يطفو على السطح في هذه المسألة تحديدا هو ان التناقض واضح وصارخ، نظرا لعدم فهم الادوار الحقيقية لكل منهما وحتى للمثقف نفسه، وأكثر من ذلك عندما يبرز هذا اللافهم من قبل العامة وتوجه الاتهامات لكليهما صوابا او جزافا، وانا اقول ان ادوارهما متكاملة اذا ما تم السير بكل منهما حسب ما تقتضيه اصول الادوار وطبيعتها، دون انحراف بالسياق والتنفيذ،وذلك عند تفضيل المصالح الشخصية وإهمال المصلحة العامة.
ولتوضيح ذلك دعونا نعرج بشكل سريع ومختصر على نظريتين هامتين في علم الادارة، وذلك بهدف ايضاح والقاء مزيد من الضوء على دور المثقف ورجل السلطة وتكامل ادوارهما، الا وهما "نظرية الوكالة , ونظرية اصحاب المصالح".
نظرية الوكالة، وهي علاقة تعاقدية ترتقي لان تصبح دستورية عندما يتعلق الحديث عن الدولة... تنشأ الوكالة عندما يفوض شخص أو مجموعة من الأشخاص( المواطنين) وهم الطرف الأصيل في هذا العقد،شخصًا آخر او جهة ٱخرى(الوكيل) للقيام بعمل محدد بالنيابة عن الاصيل.، وهو "الحكم" في هذه الحالة،
نظرية الوكالة هي إطار تحليلي يفسر العلاقة بين طرفين، الأصيل والوكيل ، حيث يفوض الأصيل الوكيل لتنفيذ مهمة بالنيابة عنه. تنشأ هذه النظرية بسبب تقارب المصالح ووحدة الهدف، ثم عدم التكافؤ في المعلومات والمؤهلات بين الطرفين، ومسؤولية الوكيل في اتخاذ قرارات تؤثر على الأصيل.... تهدف النظرية إلى حل المشكلات والخلافات التي تنتج عن هذا الاختلاف، مثل الاختلاف في الأهداف ومستوى تحمل المخاطر ما بين الاصيل والوكيل.
هنا تظهر مشاكل الوكالة واهمها
عدم تناسق المعلومات وتدفقها، فغالباً ما يمتلك الوكيل معلومات أكثر من الأصيل بحكم الموقع، مما قد يؤدي إلى قرارات تتفق مع مصلحته الخاصة وليس مصلحة الأصيل.
وهنا تتباعد المصالح وتنشأ مشكلة الوكالة ،وهنا يأتي دور المثقف بمطالبة الوكيل بالعودة لدوره المفترض والاصيل.
ايضا هناك مشكلة تحمل المخاطر فغالبًا ما يكون الوكيل أقل عرضة للمخاطر مقارنة بالأصيل، حيث يتحمل الأصيل العواقب المحتملة لقرارات الوكيل، وهنا يكمل المثقف دوره بالنقد ومطالبة السلطة بتحمل نتيجة قراراتها وإعفاء الاصيل من تبعاتها.
حلول نظرية الوكالة...وعادة ما تلجأ الدول الى حلول لتفادي هذه المشكلة
الحوافز والمكافآت: عادة ما تلجأ الدول لسن تشريعات تحفيزية للوكلاء( السلطة) تجعل أهدافهم تتوافق مع أهداف الطرف الأصيل ( الشعب) وقد تكون هذه المكافآت مادية او معنوية كالاوسمة والجوائز والاستمرار بالوكالة( الحكم).
الحوكمة: وضع آليات رقابة وإشراف فعالة لضمان سلوك الوكيل بما يخدم مصلحة الأصيل.( مجلس نواب مثلا)، وربط مصير الوكيل بنتائج قراراته.
_ اما نظرية اصحاب المصالح فهي تختص بتحليل أصحاب المصلحةاو المنفعة، وهي عملية تحديد وتقييم الأفراد أو المجموعات المتأثرة أو المؤثرة في جهة ما أو مؤسسة ما، وصولا لمصلحة الدولة العليا بشكل عام وتحديد احتياجاتهم وتوقعات( مصالحهم) بالرغم من تناقضها في أحيان كثيرة، ووضع استراتيجيات للتواصل والتعامل معهم بشكل فعال لضمان نجاح مسيرة الدولة ككل. ويهدف التحليل إلى فهم تأثير كل صاحب مصلحة ومستويات اهتمامه من أجل بناء علاقات شراكة قوية وتحقيق نتائج أفضل على مستوى المؤسسة والوطن بشكل عام.
بالتمعن بهاتين النظريتين وفهمهما، يسهل تفسير التناقض او التنافر مابين المثقف ورجل السلطة فالمثقف عادة لا يحكم على الموضوع برمته الا من التمسك بالمباديء والمثل العليا ومن خلال نظرية الوكالة والمشكلة التي تنشأ من رحمها فيرى ان سلوك رجل السلطة غالبا لا يتماشى مع المباديء والمثل التي ينادي بها المثقف مع اسقاط شبه تام لنظرية اصحاب المصالح من تفكيره وادراكه ، ورجل السلطة يجد انه معني بشكل مباشر بأصحاب المصالح عند استلامه لزمام السلطة وممارسة الوكالة، فيجب عليه ان يوازن بين اصحاب المصالح بالرغم من تناقضها في احيان كثيرة كما اسلفنا، مما يجعله يتنازل نسبيا عن جزء من المباديء والمثل التي يطالب بها المثقف، ليستقر بها على ارض الواقع التي يمثلها اصحاب المصالح ويجهلها المثقف كونه لا يمتلك المعلومات الدقيقة حول المصالح واصحابها، هنا يبري المثقف اقلامه ويصب جام غضبه ونقده غير المبرر بأحيان كثيرة على رجل السلطة، حتى انها تصل بأحيان كثيرة لاتهامه بالخيانة، وهنا يأتي دور الشفافية من السلطة لتبرير القرارات وإظهار المعلومات قدر الامكان.
وفي الختام نسأل: هل يصلح المثقف لاستلام زمام السلطة؟ وانا اقول بوجهة نظري ان رجل السلطة يجب ان يكون مثقفا لتبقى المباديء والمثل العليا مرجعيته الدائمة وتبقى تظلل الواقع المفروض عليه عندما يصطدم بالمصالح وأصحابها، وسيفشل اذا ما بقي غير مدركا للموازنة بين مصالحهم بما يتطلبه الواقع الحقيقي، وهذا يتطلب منه ايضا الاستقرار بالمباديء والمثل، واخضاعها للنسبية بالتطبيق وما يتطلبه الواقع والحقائق على الارض ( ولا نقول التخلي عنها).
هناك حالات من مثقفين تولوا زمام السلطة وتنكروا لمرجعياتهم الاخلاقية وانخرطوا بشكل سافر بالمصالح واصحابها دون اي تأطير اخلاقي واصبحوا بين ليلة وضحاها دكتاتوريين صغارا وكبارا ، وبالمقابل هناك حالات لمثقفين استلموا السلطة وبقوا بأبراجهم العاجية غير المتصلة بأرض الواقع ولم يفهموا ويتفهموا نظرية المصالح وأصحابها وفشلوا فشلا ذريعا بتجاربهم بالسلطة.
الخلاصة.. ستبقى الجدلية والتناقض والتنافر قائما، ما لم يكن هناك فهم وتفهم ووعي حقيقي لهذه الأدوار من كل الاطراف ثم العمل بمقتضى هذه الادوار بشكلها المفترض والاصيل