ملامح التحوّل الطموح في الخدمات الحكومية .. الصندوق الأسود (29)
د. كفاية عبدالله
06-12-2025 10:39 AM
ثمة لحظة فارقة تمرّ بها الحكومات اليوم؛ لحظة تتجاوز ما اعتدناه من موجات إصلاح تقف عند حدود الإجراء، أو تحديثات تُجمّل واجهات الخدمة ثم تتوقف عند ذلك الإنجاز. نحن أمام تحوّل أعمق وأبعد أثرًا، يلامس البنية التي تقوم عليها الحكومة نفسها، ويعيد تعريف معنى الخدمة وطبيعة العلاقة بين المواطن ومؤسسته العامة.
وتتحرك الحكومات في عالم لا يمنحها ترف الوقت ولا فسحة الانتظار؛ عالمٌ تُولد فيه المشكلات قبل أن تكتمل قدرتنا على تسميتها، وتمتد فيه الأزمات الصحية عبر الحدود، وتتسارع فيه الضغوط الاقتصادية، وتتبدّل فيه أنماط المجتمع كما لو أن الزمن يقفز لا يمشي.
وفي خضم هذا التقلّب، يتكشف ضعف المنطق القديم: منطق “لنبدأ عندما تقع المشكلة”، ذاك الذي أصبح عبئًا لا طاقة للحكومات على احتماله اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا.
في هذه اللحظة الحرجة، يتقدّم نموذج جديد للحكومة؛ حكومة لا تعرّف نفسها بما تُنجزه اليوم، بل بما تعرفه عن الغد. حكومة لا تركض خلف الأحداث، بل تُهندس مسارها قبل أن تتشكّل. وهنا يبدأ التحوّل الحقيقي في الخدمة العامة: من ردّ الفعل إلى هندسة المستقبل، ومن إدارة الإجراء إلى بناء منظومة تتعلّم، وتتكامل، وتتوقّع ما قد يحدث.
لم تعد الخدمة "معاملة" تبدأ بطلب وتنتهي بتوقيع؛ بل أصبحت أحد تجليات وعي الحكومة بذاتها، ومرآة لقدرتها على التعلّم وقراءة نبض المجتمع. لم تعد حبيسة المكاتب، بل أصبحت جزءًا من هندسة الحكومة ومنطق عملها في عالم سريع التحول. وهكذا ينتقل التحسين من معالجة آنية إلى إعادة بناء المنظومة كاملة؛ فالسلوك الإنساني، والبيانات، والسياسات، والقدرات الرقمية لم تعد خطوطًا متوازية، بل نسيجًا واحدًا تتقاطع عنده الخدمة الحديثة.
الحكومة التي تريد البقاء لا يكفيها أن تستجيب؛ عليها أن تعي وأن تفهم، وأن تقرأ وتتعمق، وأن تحلل وتتوقع. فالخدمة الحديثة لم تعد حركة روتينية، بل نقطة تلاقي إشارات تبعثها الحياة اليومية للمواطن: من ميلاده إلى انتقاله، ومن صحته إلى تحوّلات عمره.
إنها خدمة لماحة، فطنة، ذكية… تعرف قبل أن تُسأل، تُنبّه قبل أن يتعثّر، وتُعين قبل أن يطلب العون. وهذا التحوّل يرفع الخدمة من إطار الإجراء إلى إطار الفهم العميق للإنسان، التزامًا بمبدأ “الإنسان أولًا” باعتباره قيمة عليا ومقصدًا ثابتًا. وهو ما يمنح الحكومة قدرة على التدخل المبكر، والتحرك الرشيق، وصنع أثر مستدام بعيد عن ردود الفعل اللحظية التي سرعان ما تتبدد بعد انقضاء الأزمة.
ومع صعود النماذج الرقمية الوطنية الموحدة، تتلاشى الجزر المؤسسية التي تتكدّس فيها البيانات وتتباعد فيها الأنظمة. تتقدم منصة واحدة تُعيد وصل ما انقطع بين مؤسسات الحكومة التي خرجت من رحم واحد. كأن وصية "الأم الحانية" تتردد بين جنبات الجهاز الحكومي: “تكافلوا ولا تتنافسوا، فقد جمعكم وطن يستحق منكم الكثير. افسحوا الطريق للمعلومة كي تنساب، وللجهود أن تتكامل، وللقرار أن يُبنى على مصلحة عامة لا على حدود مؤسسة.” بهذا التعاضد تزدهر الخدمة، ويصبح العمل الحكومي منظومة تتنفس وتتفاعل، لا مؤسسات متجاورة يتعثر بينها الاتصال وتضيع أوامر الأولويات في ضجيج اليوميات.
وتتجه الحكومات الواعية اليوم نحو حوكمة تحليلية تتجاوز الحدس الفردي، وتستند إلى بيانات وتحليلات ومعارف تكشفها الخوارزميات وأنماط السلوك. يتشكّل عقل جديد للحكومة؛ عقل يرى ما لا يُرى، ويفكّك جذور الخلل قبل أن تظهر أعراضه. وهنا يصبح القرار الحكومي نتاج رحلة تعلم، لا استجابة مستعجلة تحت ضغط اللحظة.
غير أن هذا التحوّل بكل وعوده التقنية يحمل مسؤولية أخلاقية أصيلة: فالاستباقية بلا أخلاق تتحول إلى خطر، والخوارزميات دون شفافية قد تُنتج ظلمًا وإن زعمت العدالة. الحكومة التي تحترم مواطنيها لا تستخدم بياناتهم للمراقبة، بل لحمايتهم؛ ولا تدفعهم للهامش، بل تجعل إنسانيتهم في مركز كل تصميم وكل قرار.
وفي نهاية المشهد، تبقى الثقة العامة هي المحصلة العليا لكل هذا الجهد. قد تُسرّع الحكومة خدماتها، وقد تُجمّل منصاتها، ولكن لا قيمة لذلك إن لم يشعر المواطن بأن العدالة حاضرة، والكرامة مصونة، والشفافية غير قابلة للمساومة. الثقة ليست نتيجة جانبية؛ إنها الميزان الذي يُقاس به صدق الإصلاح، وجدوى التقنية، وعمق رؤية الحكومة لنفسها ولمجتمعها.
إن ما يطرق أبواب الحكومات اليوم ليس تحديثًا إداريًا ولا قفزة تقنية؛ إنه انتقال فلسفي في معنى الخدمة ودور الحكومة ومكانة المواطن. انتقال من خدمة تُمنح عند الطلب، إلى خدمة تُحاك جزءًا من العقد مع المواطن. ومن مؤسسات تعمل منفصلة، إلى منظومة تتنفس من رئة واحدة. ومن قرارات تُبنى على الخبرة، إلى قرارات تُبنى على الوعي والفهم واستشراف الغد دون تجاهل دروس الأمس.
ومن خدمة تُنجز، إلى خدمة تزرع الثقة.
وبعد؛
الحكومة التي تستبق أزمات الغد قبل أن تتشكّل، وتفكك جذور الاختلال قبل أن تتسع دائرته، وتبني منظومة خدمة تحترم الإنسان قبل أن تخدمه… ليست حكومة تطارد الزمن، بل حكومة تصنعه.
وكل حكومة تنجح في هذا التحول تمنح نفسها فرصة لاستعادة ما تآكل بين يدي الزمن: علاقة ناضجة مع مواطنيها، وصلحًا صادقًا بين حكومة طموحة ومواطن مُلحّ على حقه، وشراكة جديدة تُبنى على الثقة لا على الشك، وعلى الأمل لا على الخيبة.
فالمستقبل لا تصنعه المنصات وحدها، بل تصنعه العقول التي تُحسن قيادة التغيير، والخدمات التي تُصان بها كرامة الناس قبل أن تُحسَّن بها واجهات المؤسسات.
* اختصاصي التطوير المؤسسي
(Kifaya2020@gmail.com)