للأماكن أرواح كما للبشر. ثمة منازل يظل لها في الذاكرة منازل مهما طوى الزمن من صفحات العمر.
قبل خمس وعشرين سنة افتتحت مكتبي في الصويفية. كنت حينها محاميا مغمورا، ومغامرا جسورا؛ في تلك الخطوة؛ فخبرتي في "بحر المحاماة" في تلك السنة لم تتجاوز شاطئ خمسة أعوام، وتكاليف المكتب باهظة على محام غرٍ قادم ليغير مستقبله المعنى عبر تغيير عنوانه من عمان الجنوبية إلى عمان الغربية.
وحدي كنت حين بدأت وحدي لا شريك لي حقا وحقيقة يحمل بعض أحمالي الثقيلة. ووحدي كنت وحدي حين رسخت وحدي خطواتي الواثقة في منطقة تنعم بالثراء وفئة وازنة من طبقة رأس المال، وإن كانت شبه خالية من السابلة، والهدوء يغلف حركة السير فيها ببطء يشبه سكون القرى الوادعة. لا غرو أن الاسم الرسمي في دائرة الأراضي والمساحة للمنطقة التي سكنتها وسكنتني منذ ربع قرن هو "قرية الصويفية".
أحببت تلك القرية حبا جما، ووحدي كنت أجلس وحدي بباب مجمع المرحوم المحامي غالب أبو عبود، في شارع باريس الموازي لشارع المطار؛ فينكشف أمام نظري المشهد على الدوار السابع دون أن تحجبه عني بنايات وعمارات ومجمعات.
وحدي كنت أتعب وحدي؛ فأغادر المكتب كي أجلس أمام باب المجمع على كنبة جلدية عريضة؛ فيمر الوقت وأنا أشهد سقوط الشمس في بطن وادي السير فيما أتصادم بنفسي في رحلة الشفق وقافلة الغسق.
هناك التقينا لأول مرة. عاهدتها أن أظل أحبها حتى آخر العمر وأن نظل معا. قالت ضحكة عينيها كلاما أعذب وأجمل من عهودي كلها. ثم قالت عيناها ذات صباح، وقد لاحت فيهما دموع كبيرة: إذا افترقنا يوما فلن أكون أنا. رد قلبي الصغير: سأحتفظ بالذكريات الجميلة دائما،وستظلين معي حتى بعد الفراق. سأظل أحبكِ حتى بعد رحيلي. بقينا على أجمل سنوات العمر التي زادت على اثنتين وعشرين سنة.
كبرت أنا ولم تكبر الصويفية؛ بل نضجت مثل صبية فارت في جسدها الأنوثة قبل الأوان، دبت الحياة في عروق القرية. ظهر شارع الوكالات بغتة. تسارعت حركة العمران، وبدأت البنايات تنهض بسرعة وأناقة وغمرت الإنارة الشوارع المعتمة، وازدحمت الشوارع فجأة في شارع قريتي التي لا تكبر ولا تنسى. أما أنا فقد كبرت. لم أعد قادرا ولا راغبا في الحضور من بيتي القريب إلى المكتب مشيا على الأقدام، ولا سيرا على الأحلام!
اليوم لا يمكنني الجلوس بباب المجمع حيث جميع المحال فيه مشغولة، ولا مكان لا لكنبة عريضة أو حتى لكرسي صغير بلا مسند ظهر، ولو توافر ذلك المكان، فلا جدوى من الأمر؛ فالبنايات حجبت الشمس، وسدت أفق التأمل، وما عاد مشهد الغروب الغامض الذي يثير المشاعر المتناقضة يعني لي شيئا غير انتهاء معركة النهار، وقدوم الليل خلا وفيا وغولا ينهش القلب بنصال الذكريات القاسية دون رأفة.
لم تتغير الصويفية ولكني تغيرت وكبرت. بلى كبرت وتغيرت بعد رحيل نصف أخواتي الغاليات خلال سنة واحدة!
كبرت بلى يا حبيبتي، ولكني ما أزال على عهد الجنون في الحب والحزن والحزب والحرب، والفتى الطائش قلبي بات يشتاق السلام!
تعاهدنا أن نظل معا لكننا افترقنا _الصويفية وأنا_ثلاث سنوات، وها أنا اليوم بعد أن هزمني الشوق أكسر طوق الفراق، وأمد لها الروح رغبات عناق. أعود للمكان الذي التقينا فيه لأول مرة.
ما أحلى الرجوع إليها!