منذ نشأة الدولة الأردنية ارتكز كيانها على سيادة القانون كأصل للحكم والعدالة وركيزة لاستقرار الدولة ومؤسساتها. فمنذ صدور القانون الأساسي لإمارة شرق الأردن عام 1928، والذي شكل أول وثيقة دستورية تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتؤكد مبدأ الالتزام بالمسؤولية، بدأت تتبلور معالم دولة القانون والمؤسسات. ثم تطورت هذه المنظومة مع دستور عام 1947 الذي وسّع من نطاق الحقوق المدنية والسياسية، ليمهد الطريق أمام دستور عام 1952 الذي مثل التحول الأكبر في الفكر الدستوري الأردني، إذ رسّخ مبدأ تكامل السلطات وتعاونها في إدارة شؤون الدولة، لتعمل التشريعية والتنفيذية والقضائية بتناغم يهدف إلى تحقيق العدالة وصون الحقوق، ويجسد رؤية الدولة الهاشمية القائمة على التوازن لا التنازع، وعلى الشراكة لا الانفراد.
برزت في السنوات الأخيرة نزعة مقلقة لدى بعض الأفراد والمجموعات إلى تنصيب أنفسهم “حراساً للمجتمع”، يراقبون السلوك العام ويصدرون الأحكام، ويؤثرون في الرأي العام عبر منصات التواصل الاجتماعي. فتحولت هذه المنصات في كثير من الأحيان إلى محاكم مفتوحة تطلق فيها الاتهامات وتشكل فيها الأحكام بلا دليل أو مسؤولية، وكأن الاحكام أصبحت خاضعة لمزاج اللحظة لا لسلطة القانون.
لا تكمن المشكلة في اختلاف وجهات النظر، بل في تحويل الخلاف إلى وصاية خارج الأطر المؤسسية. الأخطر أن بعض هذه الممارسات تتسلل احياناً نحو محاولة التأثير على عمل المؤسسات التنفيذية، فتضعف هيبتها وتشوه صورتها أمام الرأي العام، ويغير من موقعها كجهة تنفيذية إلى طرف في الجدل. وهنا تتجلى خطورة “الوصاية المجتمعية”، فحين تتحول حرية التعبير إلى محاولة تشكيل القرار العام من خارج مؤسساته الدستورية، سيحدث تصدع في منظومة الثقة التي بني عليها العقد الاجتماعي.
إن قوة الدولة لا تقاس بقدرتها على الاستجابة للضجيج، بل بقدرتها على صون استقلال مؤسساتها عن المؤثرات العابرة، لتظل بوصلتها ثابتة نحو المصلحة الوطنية لا المزاج اللحظي.
إن حراسة المجتمع مسؤولية الدولة لا مبادرة الأفراد، وهي تمارس عبر القانون ومؤسسات إنفاذه فقط. فالدولة التي تقام على القانون تحمي الجميع، أما حين يستبدل القانون بالمزاج، فإن الفوضى تبدأ من حيث تنتهي العدالة.
ولعل ما يؤكد صلابة النموذج الأردني أن القيادة الهاشمية كانت وما زالت الدرع الأول لصون دولة القانون، تؤمن بأن العدالة لا تتحقق بالشعارات بل بالممارسة، وأن حماية المجتمع تبدأ بتكامل مؤسساته وثقة مواطنيه بها، لا بخلق “حراس” يربكون المسيرة ويزيفون الرأي العام.
فالقانون هو الحارس الحقيقي، والدولة التي تحافظ على تكاملها الداخلي لا تخشى من الخارج، لأن قوتها في تماسكها وعدالتها قبل أي شيء آخر.