facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




حين يصبح الإنجاز مجرد محاولة للنجاة


د. ثروت المعاقبة
10-12-2025 01:14 AM

في بيئة العمل، تظهر أزمة مجهولة الهوية؛ أزمة لا ترتبط بقانون ناقص أو بموظفين غير منضبطين، بل تنشأ من خلل يبدأ من القمة حين تُمنَح مسؤوليات كبيرة لمن لم يصل بعد إلى مرحلة الجاهزية. هذه الظاهرة لا تبدو خطيرة في ظاهرها، لكنها تشبه شرخًا صغيرًا في جدار ضخم؛ يتسع بصمت، ثم ينهار فجأة. فالمؤسسة التي تسمح بأن يتولى غير المؤهلين مواقع اتخاذ القرار، أو قيادة الملفات المصيرية، تسير في طريق محفوف بالمخاطر حتى لو بدت الأمور مستقرة للحظة.

المشكلة ليست في الطموح، ولا في رغبة الموظف في التقدم، بل في الانتقال القسري إلى مستوى إداري لا يملك أدواته، فالمسؤوليات الإدارية ليست مجرد مهام إضافية، بل هي مزيج معقد من قراءة الأنظمة، وفهم السياق، وتحليل النتائج، وإدارة الأشخاص، واتخاذ القرارات تحت الضغط. عندما يفتقر المكلَّف لهذه القدرات، يتحول أصل العمل من البناء إلى الترميم، ومن الإنجاز إلى إطفاء الحرائق.

الموظف الذي يُوضع أمام مهام أكبر منه يجد نفسه في سباق مع الوقت لإثبات أنه قادر على حمل ما وُضع على كتفيه، لكنه سرعان ما يكتشف أن حجم الملفات، وطبيعتها الفنية والقانونية، يتجاوز ما يمتلكه من مهارات. يبدأ التردد، ثم تتشابك الأولويات، ويضيع التركيز، وتتحول كل خطوة إلى احتمال خطأ قد تكون نتائجه واسعة. ليس لأن الموظف ضعيف، بل لأنه وُضع في ساحة غير مجهّز لها. هذا الضغط الخفي ينهش طاقته النفسية، ويجعله يعيش بين الشعور بالتقصير والخوف من الفشل، حتى يصبح الإنجاز مجرد محاولة للنجاة وليس للتطوير.

في المقابل، يتحمل الفريق بالكامل انعكاسات هذا التكليف غير المدروس، فالموظفون المحيطون به يضطرون إلى سد الثغرات التي يُحدثها الانخفاض في جودة الأداء العام، وينشأ نوع من العبء الجماعي، حيث يعمل البعض فوق طاقتهم لتعويض النقص، بينما يشعر آخرون بالإحباط لأن مواقع لا يستحقها أصحابها تُسلَّم لمن لا يستندون إلى خبرة أو كفاءة. هذا الشعور يضعف الروح المعنوية، ويُفقد الفريق إحساسه بعدالة المؤسسة، ويخلق فجوة يصعب ردمها حتى بعد مرور الزمن.

وليس غريبًا أن تفقد المؤسسة تدريجيًا توازنها، فالتقارير تصبح غير دقيقة، والخطط تُبنى على معلومات ناقصة، والمتابعات تصبح شكلية، والقرارات تُتخذ دون مبررات واضحة. الأخطر من ذلك أن المسؤول الأعلى يظن أن تكليفه لشخص غير مناسب هو «منحه فرصة»، بينما الحقيقة أنه يعطّله ويشوّه مساره المهني، ويعرّض المؤسسة لنتائج قد تحتاج سنوات لإصلاحها.

البنية المؤسسية الصحيحة لا تقوم على المجازفة، بل على التدرّج المدروس فالتدرّج ليس إبطاءً لمسيرة الموظف، بل هو المسار الطبيعي لصناعة خبرة حقيقية. الخبرة لا تُعطى، بل تُكتسب عبر مراحل:

مشاهدة الأداء العام _ تدريب وتمكين _ممارسة موجهة _ مسؤوليات جزئية _ ومن ثم مسؤوليات كاملة.
تجاوز هذه المراحل يشبه بناء طابق إضافي فوق أساس هش؛ ربما يبقى واقفًا قليلًا، لكنه ينهار في أول اختبار.

القائد الحكيم لا يرى عدد الموظفين فحسب، بل يرى قدرات الموظفين، وميولهم، وحدودهم، ونقاط قوتهم، والفجوات التي تحتاج تدريبًا. لذلك لا يدفع أحدًا إلى الواجهة قبل أن يتأكد من جاهزيته، ولا يمنح منصبًا استنادًا إلى الود أو الانطباع، بل إلى تقييم صارم يضع مصلحة المؤسسة فوق أي اعتبار. وهو يدرك أن الكفاءة ليست مجرد مهارة فردية، بل هي أمانة ترتبط بحقوق الناس، والمال العام، وسمعة المؤسسة.

إن بناء منظومة قوية يبدأ من تأسيس قواعد ثابتة لا تتغير بتغيّر الأشخاص:

وصف وظيفي لا يسمح بالتعدي على أدوار الآخرين.

سلسلة تدريب متصلة تُعدّ الموظف قبل تكليفه.

تقييم واقعي لا مجاملات فيه.

توزيع عادل للمهام.

متابعة دقيقة تُنقذ العمل من الأخطاء قبل أن تكبر.

بهذه الأسس، تُصنع مؤسسات قادرة على الاستمرار، لأن كل شخص فيها يعرف دوره وحدوده، ويعرف أين يبدأ تأثيره وأين ينتهي. أما حين تدخل العشوائية، وتُمنح المواقع لمن لم تجهزهم الخبرة، فإن المؤسسة تسير بعيون مغمضة، وتتحمل ثمن قرارات لم تُبنَ على معرفة.

المؤسسات لا تنهض بالصدفة، ولا تنهار فجأة؛ بل تبنيها قرارات مسؤولة أو تهدمها تجاوزات صغيرة تتراكم وتتحول إلى فوضى صامتة. إن اختيار الشخص المناسب للموقع المناسب ليس قرارا ثانويا، بل هو حجر الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء، وكل قرار يُتخذ بلا تقييم حقيقي، هو خطوة تبتعد بالمؤسسة عن الاستقرار وتقترب بها من حافة الخطر.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :