نحو فلسفة عربية للمحافظة الراشدة
د. بركات النمر العبادي
10-12-2025 01:30 PM
* دعوة إلى مشروع تأويلي يربط الحكمة بالإصلاح، ويعيد الجمال إلى صلب السياسة
مقدّمة
في خضم التحوّلات المتسارعة التي تعصف بالمجتمعات العربية، وبين موجات التحديث الجارف والقطيعة مع التراث، يبرز سؤالٌ جوهري : هل يمكن أن تكون المحافظة موقفًا فلسفيًا راشدًا، لا عائقًا أمام التقدّم؟
هذا المقال يسعى إلى تقديم ملامح أولية لـ فلسفةٍ عربيةٍ للمحافظة، لا تنغلق على الماضي، بل تستلهم منه القيم لتُضيء دروب المستقبل ،إنها دعوة لإحياء صوت الحكمة في زمن التهريج، وصوت الجمال في زمن القبح، وصوت الفطرة في زمن التشييء.
1- الفلسفة كجذرٍ لا كزينة
ليست المحافظة قناعًا سلوكيًا ولا موضة فكرية، بل هي رؤية جذرية لما ينبغي أن يُصان ويُعاد تأويله.
فالمجتمع المحافظ بحق لا يكتفي بالتمسّك بالشكل، بل يُدرك جوهر ما يحافظ عليه، و كما عبّر المفكر المغربي طه عبد الرحمن في كتابه روح الحداثة (2006):
“الحداثة لا تُؤخذ من غيرنا ، بل تُستخرج من داخل أخلاقنا.”
هذا القول يصلح اليوم شعارًا لمشروع المحافظة العربية. إذ لا بد من ولادة الفيلسوف المحافظ العربي: ذاك الذي لا يرى تناقضًا بين الإيمان والعقل، ولا بين التراث والمعاصرة ، بل يجعل من الحكمة جسرًا بين الهوية والكونية.
2- المحافظة كفلسفة للزمن
الفكر المحافظ الحقيقي ليس مجرّد حنين سلبي (nostalgia)، بل هو قراءة إبداعية للزمن.
المحافظ العربي لا يعيش في ماضٍ ذهبي متوهَّم ، بل يقرأ التاريخ كما يقرأ المؤمن كتابًا من كتب الوحي: لا ليعود إليه، بل ليُكمل معناه. إنها فلسفةٌ زمنية تُعيد الاعتبار للذاكرة دون أن تُقيّد المستقبل ، تُقدّر اللحظة الحاضرة دون أن تُطلقها من كل جذور.
وهنا نستذكر عبارة المفكر الإنجليزي إدموند بيرك: المجتمع هو شراكة بين الأحياء والأموات ومن سيولدون."
بهذا التصوّر، تُصبح المحافظة تركيبًا لا محوًا ، وتستعيد الاستمرارية كقيمة أخلاقية.
3- الجمال كقيمة سياسية
من أهم إسهامات الفكر المحافظ الغربي — لا سيما لدى روجر سكروتن — هي اعتبار الجمال مبدأ سياسيًا ، لا فنيًا فقط ، فالمجتمع الذي يهتم بجمال مدنه ، ونظافة لغته ، وتهذيب سلوكه ، هو مجتمع ينشد السكينة ، تلك الكلمة التي استخدمها القرآن للدلالة على الطمأنينة الإلهية.
في ظل العولمة التي فرضت قبحًا عمرانيًا ، ولغويًا ، وسلوكيًا ، تصبح المحافظة الجمالية ثورةً ناعمة ضد التشوّه، وحين تُرمَّم البيوت التراثية ، وتُبنى المدن على وئام مع ذوق الإنسان وهويته ، وحين تُستعاد هيبة اللغة العربية في الإعلام والثقافة — تتحوّل المحافظة من شعار إلى مشروع حضاري.
4- في جوهر المحافظة: الإنسان
ليست المحافظة دفاعًا عن أنظمة أو مؤسسات ، بل هي — في عمقها — دفاعٌ عن الإنسان بما هو كائنٌ أخلاقي|، وفي زمن الفردانية الشرسة ، والنزعة الاستهلاكية المفرطة ، يُصبح من الضروري تذكير المجتمعات بأن الإنسان لا يُقاس بما يملك ، بل بما يكرّم ى ؛ لا بما يبتكر، بل بما يُصون من قيم.
الفكر المحافظ يُعيد الاعتبار للفطرة ، للضمير، للواجب ، وللجماعة الأخلاقية التي كانت يومًا عماد الحضارات.
وكما قال بيرك: "الذي لا يعرف كيف يحافظ على إرثه ، لا يعرف كيف يبني مستقبل".
وفي الختام ما نطرحه هنا ليس عودةً إلى الوراء ، بل قفزة روحية نحو المستقبل ، تستمد وقودها من الذاكرة الأخلاقية ، وتستعيد الإنسان من قلب زحام الأشياء.إنها دعوة للفلاسفة العرب أن يعيدوا كتابة مفهوم “المحافظة” لا كأيديولوجيا ، بل كفلسفةٍ شاملة للزمن ، للهوية ، وللجمال.
حمى الله الاردن من كل كريهة و سدد على طريق الحق خطاه .
* حزب المحافظين الاردني