الأردن ومرحلة جديدة من التحديث السياسي
هزاع البراري
11-12-2025 12:05 AM
تميّز الأردن السياسي بتعاطيه المرن مع معطيات كل مرحلة أو انعطافة حادّة في مسيرة البناء السياسي والتشريعي للدولة، ولكن هذه المرونة لا تخرج أبدًا عن البوصلة الوطنية العليا، ولا تعدّ خروجًا عن قيم الدولة ورسالتها ونهجها الداخلي والخارجي، بل إن كل هذه المعطيات تنصهر في بوتقة التطوير والتحديث المستمر. وعلينا أن نقرّ أن ما مرّت به المنطقة إبان "الربيع العربي" فرض حالة من التعاطي السريع والاستجابة الآنية لوضع استثنائي، وكان كثير امنه غير وطني صرف، بسبب صعود قوى معيّنة ذات امتداد أممي في دول مجاورة. فجاءت التعديلات الدستورية في تلك المرحلة غير ملائمة لنسق الدولة وطبيعة المؤسسات والعلاقة بينها، وخاصة — وهو الأهم — ما ينظّم العلاقة بين المؤسسة التشريعية (مجلس الأمة بغرفتيه) والحكومة؛ فربط مصيرهما معًا خلق نوعًا من العلاقة المصلحية، إذ لا يرغب أي طرف في تأزيم العلاقة أو تصادمها، فذلك — إن حدث — يعني غالبًا خروجهما معًا من الحلبة، وهذا أوجد رابطًا وجوديًا بين المؤسستين، وأرى أن هذا ليس في المصلحة العامة بشكل عام.
نعم، لم تتوقف مسيرة التحديث يومًا، وإن تفاوتت في زخمها وحجمها، وقد جاءت اللجنة الملكية للتحديث السياسي الأخيرة بناءً على نهج ملكي واضح يهدف إلى الارتقاء بالمشاركة السياسية وتطوير الحياة الحزبية، لكن علينا أن نعترف أن أي مقترح كبير للتحديث محكوم بالتجربة العملية، وإن تَلَمُّس بواطن الضعف ونقاط القوة يبقى رهين الممارسة الفعلية. وإن كنت على قناعة بأن اللجنة سعت إلى حرق بعض المراحل وتجاوز البنية الثقافية الاجتماعية، وتقديم مساحة للحياة الحزبية قبل نضوجها فكريًا واجتماعيًا، واستباق بناء حواضن شعبية لهذه الأحزاب، مما أدى إلى نتائج أقل من المأمول بكثير، وهي بطبيعة الحال تجربة ثرية يُستفاد منها، لكنها تستدعي المراجعة والتحليل، وضرورة التعديل الذي يعيد بناء المراحل لا القفز عليها، بما يكفل المصلحة الوطنية ويحقق الطموح الملكي والشعبي معًا.
إن الذهاب دائمًا إلى التشريعات بوصفها البوابة الكبرى للتحديث دون الالتفات إلى البنى الثقافية والاجتماعية يعدّ قفزًا آخر عن العتبة الأساسية؛ فالمسألة ليست تشريعية بالأساس، بل ثقافية/اجتماعية، ويجب إيلاء هذا الجانب العناية الأولى قبل التفكير بالقفزة التشريعية. ولا يمكن للتشريع أن يسبق التحديث الثقافي المجتمعي، بل إن الأخير هو الذي يمهّد للأول ويستدعيه. ومن هنا، فليس العيب أن نمشي بخطى بطيئة لكن حقيقية ومؤثرة، وإنما الخطأ أن نصرّ على السير بسرعة لا تلائم شكل الطريق وانعطافاته الكثيرة، فمن شأن ذلك خلق ظروف مناسبة للإحباط نتيجة تراجع المردود المفترض.
اليوم، يفرض واقع الحال حتمية المراجعة والتصويب، فلا بد من تعديلات دستورية تعيد الأمور إلى ركائزها، وخاصة المتعلقة بضرورة فكّ الربط العضوي بين مجلس الأمة والحكومة، وعدم ربط مصيرهما معًا، ففي ذلك خلل كشفته الممارسة الفعلية، وأثر على أداء الطرفين. ومن الأهمية أيضًا إعادة النظر في المادة (94) من الدستور، فهي لا تراعي الخصوصية الأردنية ولا الحالة الإقليمية شديدة الحساسية، وتصيب الحالة السياسية والتشريعية بما يشبه عسر الهضم، أو — في حالات طارئة — بالاستعصاء التشريعي، مما يحول دون انسيابية أداء الدولة وقدرتها على التكيّف السريع مع المعطيات الداخلية والتحولات الإقليمية المتقلبة. وهذا قد يشكّل تهديدًا ما لصلابة الموقف الأردني وسرعة استجابته. فالمراجعة الجذرية بالغة الأهمية على صعيد التعديلات الدستورية والقوانين الناظمة للحياة السياسية، والإفادة من كل معطيات مسيرة التحديث السابقة، وإعادة ضبط البوصلة باتجاه الثقافة المجتمعية والخصوصية الأردنية، وعدم حرق المراحل أو تجاوزها، فنحن في الحياة السياسية قد قطعنا مراحل مهمة، والسرعة والتجاوز ذات عواقب عكسية بطبيعة الحال.
"الرأي"