الدورة الكاملة للقيمة .. اقتصاد يبني مجتمعات أكثر مرونة
أ.د. أمجد الفاهوم
12-12-2025 12:49 PM
يكتسب الاقتصاد الدائري زخماً متزايداً بوصفه أحد أبرز التحوّلات الاقتصادية القادرة على بناء قيمة مستدامة تتجاوز منطق الإنتاج والاستهلاك التقليدي. يقوم هذا النهج على إعادة تصميم تدفّقات المواد والموارد ليصبح كل مخرجٍ مدخلاً جديداً في دورة إنتاج مستمرة، ما يقلّل الاعتماد على الموارد المستوردة ويعزّز القدرة على التكيّف مع تقلبات الأسواق والطاقة والمواد الخام. وفي عالم تتسارع فيه كلف الإنتاج وتتعمّق فيه المخاطر البيئية، بات الاقتصاد الدائري خياراً اقتصادياً واجتماعياً لا يمكن تجاهله.
ولا بد من الإشارة إلى أن هذا المفهوم لا يقدّم حلولاً تقنية فحسب، بل يعيد صياغة العلاقة بين النمو الاقتصادي وجودة الحياة. فكل عملية تقليل للهدر تعني خفضاً في الكلف التشغيلية للشركات، وكل مشروع تدوير ناجح يخلق فرص عمل للشباب، وكل استثمار في تصنيع مواد معاد تدويرها يعزّز تنافسية الصناعات الوطنية ويخفّف الضغط على البيئة. وعند الاطلاع على تجارب دول الجوار نجد أنها تقدم نماذج واضحة لهذا النمط الاقتصادي؛ إذ دفعت الإمارات نحو منظومات متقدمة لإعادة استخدام المواد ضمن صناعاتها التحويلية، واستثمرت السعودية في تطوير سلاسل قيمة لإعادة تدوير البلاستيك والمعادن، فيما طوّرت مصر منظومة إدارة نفايات ترتبط بالمجتمعات المحلية وتمنحها دوراً إنتاجياً في الاقتصاد الأخضر.
أما في الأردن، فتبرز مبادرات واعدة يمكن البناء عليها، من منشآت إعادة تدوير المعادن والبلاستيك في المدن الصناعية، إلى جهود الشركات الكبرى في خفض بصمتها البيئية، وصولاً إلى مشاريع ريادية صغيرة تحوّل النفايات العضوية إلى منتجات زراعية ذات قيمة مضافة. غير أن تحويل هذه المبادرات إلى منظومة اقتصادية متكاملة يتطلب تخطيطاً استراتيجياً يربط التنمية الصناعية بالابتكار والعدالة الاجتماعية، ويعزّز مشاركة المجتمعات في إدارة مواردها، ويمنح القطاع الخاص حوافز واضحة لدمج الاقتصاد الدائري في عمليات الإنتاج.
وتقوم آلية عمل الاقتصاد الدائري في بيئة الأعمال الأردنية على تحليل دورة حياة المنتج منذ مرحلة التصميم، وتحديد نقاط الهدر القابلة للتحويل إلى فرص اقتصادية، واستخدام التكنولوجيا في إدارة الموارد؛ من الذكاء الاصطناعي في معالجة النفايات الصناعية إلى التحليلات المتقدمة التي ترفع كفاءة الطاقة والمياه. وهذا يستدعي تشريعات تشجّع على إعادة الاستخدام والتدوير، ونظام حوافز ضريبياً ومالياً يدعم الاستثمار في المعدات والتقنيات النظيفة، إضافة إلى منظومة تمويل تُشرك البنوك وصناديق التنمية في بناء سلاسل قيمة جديدة. كما يشكّل المجتمع المحلي ركناً أساسياً في نجاح الاقتصاد الدائري عبر تبنّي أنماط استهلاك واعية، ودعم المبادرات الشبابية، وتمكين البلديات من إدارة الموارد بكفاءة أكبر.
ولفهم الاقتصاد الدائري على نحو أشمل، لا بد من النظر إلى الصورة الكاملة للمشهد الذي يتصدّره لاعبون رئيسيون؛ بدءاً من الحكومة بصفتها الجهة المنظمة وصاحبة السياسات، مروراً بالقطاع الخاص الذي يقود التنفيذ ويطوّر حلولاً سوقية قابلة للتوسع، والجامعات ومراكز البحث التي ترفد المنظومة بالمعرفة والابتكار، وصولاً إلى المجتمع المدني الذي يعيد تشكيل الوعي ويعزّز ثقة الناس بالتحوّلات البيئية والاجتماعية. ولتحقيق نجاح نوعي لهذه المنظومة فلا بد من ضرورة العمل المشترك بين الشركاء بصورة متوازنة وواضحة الأدوار والمسؤوليات، بما يتيح بناء اقتصاد متكيف ومنخفض المخاطر وأكثر قدرة على خلق فرص مستقبلية تستند إلى الابتكار والتنافسية.
وبناءً على ما تقدم، فإننا على ثقة بأن الأردن يمتلك فرصة حقيقية لتأسيس نموذج اقتصادي دائري يعالج تحديات الموارد المحدودة، ويحسّن مستويات المعيشة، ويُحدث تحوّلات هيكلية تمتد من المصانع إلى المجتمعات المحلية. إن هذه المنظومة ليست مجرد إدارة للنفايات، بل بوابة لبناء اقتصاد أكثر عدلاً وكفاءة ومرونة؛ اقتصاد يربط النمو بالإنسان وبالمجتمعات التي تشكّل عماد التنمية، ويمنح البلاد قدرة أكبر على مواجهة المستقبل بثقة وابتكار.