الترف الفكري والسياسي بين الواقع والخيال
جمعة الشوابكة
14-12-2025 09:08 AM
في المشهد العالمي المعاصر، يطفو على السطح ما يمكن تسميته بـ الترف الفكري والسياسي، وهو نمط من الممارسة يقوم على كثرة الكلام وقلّة الفعل، وعلى إنتاج الخطاب بدل إنتاج الحلول. تتقدّم فيه الوعود على الإنجاز، والشعارات على السياسات، والأفكار المجردة على العمل الواقعي، حتى بات هذا الترف أحد أبرز ملامح الحياة السياسية والاقتصادية في كثير من دول العالم، ولا سيما في الدول النامية.
يقود هذا الترف أشخاص ونخب يتحدثون أكثر مما يعملون، يطرحون مشاريع كبرى دون امتلاك أدوات تنفيذها، ويعدون بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تجد طريقها إلى الواقع. فلسفتهم قائمة على إدارة الانطباع لا إدارة الأزمات، وعلى تسويق الأفكار لا اختبار جدواها. وهم بذلك يندرجون ضمن فئة تُجيد الخطابة وصناعة الصورة، لكنها تعجز عن تقديم نتائج ملموسة، فينطبق عليهم القول إن من كان دليله الكلام انتهى إلى الفراغ.
ويزداد هذا النمط خطورة حين يتحول إلى صالونات فكرية وسياسية متعددة الأغراض، تُنتج خطابًا يبدو في ظاهره حداثيًا وتقدميًا، بينما يخفي في جوهره أهدافًا ضيقة. بعض هذه الصالونات يعمل على تضليل الرأي العام عبر معلومات مشوهة أو غير دقيقة، إما لخدمة جهات خارجية، أو لاقتناص فرص سياسية واقتصادية على حساب المصلحة الوطنية. وغالبًا ما تتكاثر هذه الظواهر في البيئات الهشة التي تعاني ضعف المؤسسات وغياب الرقابة الفاعلة.
وتُقدَّم هذه الصالونات، في خطابها المعلن، على أنها منصات لخدمة التنمية وجذب الاستثمارات ورفع معدلات النمو الاقتصادي. غير أن الواقع يكشف أن كثيرًا من هذه المبادرات لا يتجاوز كونه تنمية شكلية، تُنتج ترفًا اقتصاديًا محدود الأثر، لا ينعكس على حياة الناس ولا يسهم في بناء اقتصاد إنتاجي مستدام. فتظل المشاريع حبيسة العناوين، وتبقى النتائج بعيدة عن المواطن الذي يُفترض أن يكون محور التنمية وغايتها.
الترف الفكري والسياسي لا يقتصر خطره على تضليل الوعي العام، بل يمتد ليُضعف الثقة بين المجتمع ومراكز القرار، ويُفرغ المفاهيم الكبرى—كالإصلاح والتنمية والعدالة—من مضمونها الحقيقي. فحين تتحول السياسة إلى استعراض فكري، والاقتصاد إلى أرقام دعائية، يصبح الخيال بديلاً عن الواقع، ويغدو الوعد أهم من الإنجاز.
في المحصلة، لا تحتاج المجتمعات إلى مزيد من الترف الفكري، بل إلى فكر مسؤول مرتبط بالفعل، وإلى سياسة تُقاس بنتائجها لا بخطاباتها، وإلى مشاريع تُبنى على احتياجات الناس لا على تصورات النخب. فالفارق بين الواقع والخيال لا يُجسَر بالكلام، بل بالعمل الجاد، والمساءلة، وربط الأفكار بقدرتها الحقيقية على التغيير.