هل يمكن القول إن الولايات المتحدة دخلت ما يشبه اللحظة السوفيتية ولكن بصيغة أميركية مختلفة في الشكل ومتقاربة في الجوهر فاللحظة السوفيتية لم تكن مجرد سقوط نظام بل كانت تعبيرا عن وصول نموذج كامل إلى حدوده التاريخية وعن عجز البنية القديمة عن الاستمرار في عالم تغيّرت أدوات القوة فيه ومعايير النفوذ وآليات الإنتاج السياسي والاقتصادي واليوم تبدو أميركا وقد تجاوزت الذروة الإمبراطورية وبدأت مرحلة التآكل الداخلي لا بفعل خصومها الخارجيين بل نتيجة تصدعات عميقة في بنيتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ولاية ترامب الثانية جاءت كعامل تسريع لا كسبب أساسي إذ كشفت ما كان مخفيا تحت السطح وعرّت النظام بدل أن تحافظ على صورته فالرئيس لم يعد زعيما أخلاقيا للنظام العالمي بل تحوّل إلى جامع أتاوات يتعامل مع الحلفاء بعقلية السوق ومع الخصوم بمنطق الابتزاز ومع الدولة باعتبارها شركة ومع السياسة باعتبارها صفقة هذا التحول أحدث صداما مع مراكز القوة التقليدية داخل الدولة العميقة ومع الولايات ومع الحلفاء التاريخيين في آن وهو ما لم يكن مألوفا في تاريخ الإمبراطورية الأميركية.
القرارات البهلوانية غير المنضبطة واللغة الغوغائية التي باتت أداة للحكم عمّقت الانقسام الداخلي ودفعت المجتمع الأميركي نحو حالة استقطاب حاد غير قابل للاحتواء فالولايات الغنية بدأت تتحدث علنا عن مصالحها المستقلة والولايات المهمشة لم تعد ترى في المركز ممثلا لها والهوية الوطنية الجامعة تآكلت لصالح هويات فرعية عرقية وثقافية ومناطقية وهو مسار يشبه إلى حد بعيد ما سبق تفكك الاتحاد السوفيتي حين تحولت الجمهوريات من وحدات إدارية إلى كيانات سياسية ذات طموح انفصالي
اقتصاديا لم تعد أميركا قاطرة الاستقرار العالمي بل أحد مصادر الاضطراب فالديون تتضخم والطبقة الوسطى تتآكل والتفاوت الاجتماعي بلغ مستويات خطرة والبنية التحتية تتقادم بينما يجري تمويل الهيمنة الخارجية من الداخل المنهك تماما كما حدث مع السوفييت في سنواتهم الأخيرة حين كانت الإمبراطورية أثقل من قدرة المجتمع على تحمّلها
أما سياسيا فإن سقوط التابوهات التاريخية بات واضحا فكل ما كان محرما أصبح قابلا للتداول من التشكيك بالانتخابات إلى الطعن في شرعية المؤسسات إلى استخدام معاداة السامية كسلاح انتخابي لا كقيمة أخلاقية إذ تحوّلت إلى حصان طروادة سياسي يوظف لحشد الأصوات وتصفية الحسابات وإعادة تشكيل التحالفات الداخلية والخارجية وهو مؤشر خطير على تفكك المعايير لا على قوتها.
اللحظة السوفيتية الأميركية لا تعني انهيارا فوريا بل دخول مرحلة سيولة تاريخية تتراجع فيها السلطة المركزية وتتفتت القوة وتتعدد مراكز القرار وتفقد النخب القديمة قدرتها على التحكم بالمسار العام تماما حسب نظرية الفين توفلر(عندما تتسارع التطورات بأكثر مما يحتمله النظام السياسي والاجتماعي تبدا الدولة بالانهيار ) تشظي السلطة في عصر ما بعد الصناعة والنتيجة ليست اختفاء أميركا بل تحوّلها القسري إلى كيان جديد أقل مركزية أقل هيمنة وأكثر انكفاء على الذات.
العملاق لا يسقط دفعة واحدة بل يتآكل من الداخل وحين تبدأ الولايات بالتفكير بالانفصال وتبدأ القيادة بالتصادم مع الجميع وتتحول السياسة إلى تهريج فإن اللحظة السوفيتية لا تكون نبوءة بل واقع يتشكل ببطء في طريق اللاعودة