«لَبَيْتٌ تَخْفِقُ الأرواحُ فيهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن قَصْرٍ مُنِيفِ»
د. حمزة الشيخ حسين
14-12-2025 10:10 AM
يثير الاستغراب حقًا ما نراه أحيانًا من بعض الناس وهم يحاولون التنكّر لأصولهم، أو إنكار البلد الذي خرجوا منه لاجئين تحت ظروف قاهرة، وكأن الانتماء بات عبئًا يُخشى الإفصاح عنه. ما الذي يعنيه أمام الناس أن ينتسب شخص إلى أرضٍ يعلم يقينًا أنها ليست أرضه، ويحاول في الوقت ذاته طمس حقائق ثابتة يعرفها القريب والبعيد؟
الهوية ليست وثيقة تُبدَّل، ولا اسم مدينة يُمحى لمجرد تبدّل المكان. حتى في الدول البعيدة، كأمريكا مثلًا، نرى المهاجر العربي متمسكًا بلغته داخل بيته، معتزًا بثقافته بين أصدقائه، ينقلها لأبنائه، ولا يشعر بالخجل منها. فكيف بمن جاء لاجئًا من مدينة يعرفها الجميع، وتحت ظروف حرب ونزوح، ثم يحاول إقناع من حوله بأنه لم يكن يومًا منها؟
كم من أشخاص رأيناهم يتنكرون بشكل مباشر لأصولهم، وكم من محاولات سمعناها لتزييف الحكاية، رغم أن الأغلبية تعلم الحقيقة ولا تُعير تلك الادعاءات اهتمامًا. فالأرض لا تنسى أبناءها، والذاكرة الجمعية أقوى من محاولات الإنكار الفردية.
لقد كُتب تاريخ أهل هذه البلاد، في إربد والكرك وسائر المدن والقرى الأردنية، منذ ما قبل نشوء إمارة شرق الأردن، توثيقًا راسخًا لا يعتريه الشك، حفاظًا على حق الأجيال الحالية والقادمة في معرفة من هم سكان هذه الأرض الأصليون. هذا التوثيق لم يكن ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة وطنية في مواجهة محاولات طمس المعالم وخلط المعلومات، خاصة في ظل أطماع معروفة تسعى إلى إلغاء الحق وتشويه الذاكرة.
المؤلم أن بعض الأشخاص، بدافع الجهل أو المصلحة الشخصية، يساهمون دون وعي في إضعاف هذه الذاكرة، ويتخلّون عن حقائقهم، وكأنهم يفرّطون بجزء من ذواتهم. فالانتماء ليس عيبًا، والاعتراف بالجذور ليس ضعفًا، بل قوة وأمانة.
ولعل أصدق ما يُقال في هذا المقام ما عبّرت عنه الشاعرة ميسون بنت بحدل، حين قدّمت معنى الانتماء الصادق على كل مظاهر الزيف والترف:
لَبَيْتٌ تَخْفِقُ الأرواحُ فيهِ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِن قَصْرٍ مُنِيفِ
وَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي
أَحَبُّ إِلَيَّ مِن لُبْسِ الشُّفُوفِ
وَأَكْلُ كُسَيْرَةٍ مِن كَفَافٍ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِن أَكْلِ الرَّغِيفِ
وَأَصْوَاتُ الرِّيَاحِ بِكُلِّ فَجٍّ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِن نَقْرِ الدُّفُوفِ
وَخِرْقٌ مِن بَنِي عَمِّي نَحِيفٌ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِن عَلْجٍ عَنِيفِ
قالتها حنينًا لحياة البادية، لكنها في عمقها تقول إن الكرامة في الصدق مع الذات، وإن البيت الذي تسكنه الروح، مهما كان بسيطًا، أصدق وأبقى من قصرٍ بلا هوية…