* الأردن ليس صعب التسويق … لكنّه صعب الوصول
السياحة، حين تُفتح لها الأبواب، لا تصنع صورة ذهنية فقط، بل تُحرّك اقتصادًا كاملًا؛ كل سائح يعني ليلة فندقية، ورحلة نقل، وفرصة عمل مباشرة لا تمر عبر الوسيط ولا تنتظر قرارًا بيروقراطيًا, في الحسابات السياحية العالمية، كل سائح إضافي يعني في المتوسط ليلتين إقامة، وتنقّلًا داخليًا، وإنفاقًا مباشرًا قد يتجاوز ألف دولار، يدخل الاقتصاد المحلي فورًا دون كلفة إنتاج أو زمن انتظار, هي الدخل الأسرع دورانًا، والأكثر التصاقًا بالناس، حين يُسمح له بالوصول.
لكن حين تُدار الفيزا بعقلية الشك، وتُغلق السماء مجالها الجوي على شركات الطيران منخفضة الكلفة، ويغيب السرير المتاح سعرًا عن اللائحة الفندقية، فالمشكلة لا تكون في البلد ولا في حكايته, ليس لأنّ الأردن أقلّ جمالًا، ولا لأنّ معناه باهت، ولا لأنّ حكاياته تُروى بلا روح، بل لأنّ الطريق إليه ما يزال يُدار بعقليّة تُغلق الأبواب قبل أن تُولد الرغبة.
الأردن لا يعاني من أزمة صورة، بل من أزمة وصول؛ فالسائح لا يفرّ من المكان، بل يتعثّر عند العتبة… ويعود, ثمّة ثلاثة أبواب لا تظهر في الكتيّبات، ولا تمرّ عبر عدسات الحملات الدعائية، لكنها قادرة على إجهاض الرحلة قبل أن تُكتب على بطاقة الصعود، وقبل أن يتحوّل الحلم إلى حجز فعلي وهي:
أولًا: الفيزا — حين يصبح الدخول اختبارًا نفسيًا
السياحة لا تبدأ عند ختم الجواز، بل في تلك اللحظة الهادئة التي يقول فيها الإنسان لنفسه: «ربما أسافر إلى هناك»، حين تتحوّل هذه اللحظة إلى تردّد، وحين تصبح الفيزا مسارًا غامضًا بلا إجابة واضحة، ينهار القرار بهدوء قبل أن يولد أصلًا، في عالمٍ تُقاس فيه جاذبية الدول بمدى سهولة الوصول إليها، بالرّغم من تحسّن في هذا الجانب، الا انّه ما يزال الأردن يُدير الفيزا بعقلية الشكّ لا الترحيب، وبمنطق الاستثناء لا القاعدة، السائح لا يريد أن يشعر أنه يطلب الإذن للدخول إلى قصة، بل يرغب أن يُدعى إليها.
الدول الواثقة لا تُبسّط إجراءاتها لأنها ضعيفة، بل لأنها مطمئنة إلى ذاتها، تفتح أبوابها عن وعي لا عن تهوّر، تجارب دول مثل جورجيا، والمغرب، وتركيا، لم تبدأ قفزتها السياحية بحملات دعائية كبرى، بل بقرار بسيط، تسهيل الدخول، ووضوح الإجراءات، واعتبار الفيزا جزءًا من سياسة الجذب لا أداة إقصاء؛ فحين فُتح الباب، تولّت الرغبة بقية الطريق.
الفيزا ليست تفصيلًا تقنيًا؛ إنها موقف سياسي صامت، وتعبير عن الكيفية التي ترى بها الدولة العالم: هل ترى الزائر فرصة؟ أم خطرًا؟ ضيفًا؟ أم مشتبهًا به؟ وحين تُدار الفيزا خارج منطق السياحة، تتحوّل هيئة تنشيط السياحة إلى مسوّق لمنتج بابُه مغلق، وتغدو السفارات نقاط تفتيش لا منصّات تسهيل.
ثانيًا: السماء — بلد مفتوح في الذاكرة، مغلق في الطيران
المسافر اليوم لا يسأل أولًا: «هل البلد جميل؟» بل: «هل الوصول إليه سهل؟». في زمن الرحلات القصيرة، والقرارات العفوية، وسياحة عطلة نهاية الأسبوع، يختفي الأردن من الخريطة الذهنية للمسافر لا لأنه بلا جاذبية، بل لأن الوصول إليه مكلف ومعقّد.
غياب شركات الطيران منخفضة الكلفة لا يرفع الأسعار فقط، بل يُقصي شرائح كاملة: الشباب، والعائلات، وسياحة المدن السريعة والطبقات المتوسطه التي تُشكّل اليوم العمود الفقري للحركة السياحية العالمية، وحين تُغلق السماء، او يكون السّماح موسميّاً، يصبح البلد فكرة مؤجّلة… ثم خيارًا منسيًا.
المجال الجوي ليس ملفًا تقنيًا باردًا، ولا شأنًا سياديًا معزولًا؛ إنه شريان اقتصادي، وشرط أساسي لبقاء السياحة حيّة، وعندما تُدار سياسة الطيران بعقلية الحماية لا الشراكة، وحين يُحمَّل الناقل الوطني عبء الاحتكار بدل أن يُوضَع في قلب منظومة متنوّعة وتنافسية، يخسر البلد قبل أن تخسر شركة الطيران، لا سياحة بلا مقاعد في السماء، ولا ترويج بلا وصول، ولا معنى لحملة لا تستطيع أن تهبط على مدرجٍ مفتوح.
ثالثًا: السرير — حين تغيب عدالة السعر
السياحة ليست ترفًا، بل توازن؛ ليست سباقًا نحو فنادق الخمس نجوم، بل قدرة على الاختيار وعدالة في التسعير، العمود الفقري للسياحة العالمية ليس المنتجعات الفاخرة، بل فنادق الثلاث والأربع نجوم، مسكن العائلات متوسطة الدخل، والمسافر العادي، والزائر الذي يعود مرّة تلوَ الأخرى.
تجارب دول عديدة أثبتت أن ازدهار السياحة يبدأ حين تتّسع قاعدة الإقامة المتوسطة، وحين يصبح السرير متاحًا قبل أن يكون فاخرًا، وحين يغيب هذا السرير المتوازن، لا يحتجّ السائح ولا يكتب شكوى، بل يختار بلدًا آخر، سياحة بلا طبقة وسطى هي سياحة موسمية، سريعة الاشتعال، وسريعة الانطفاء.
وهنا، المشكلة ليست في المستثمر بقدر ما هي في البيئة، تراخيص معقّدة، تمويل شحيح، وحوافز تميل إلى النخب لا إلى الطلب الحقيقي في السوق.
الخلاصة
أزمة إدارة… لا أزمة هوية
الأردن لا يفتقر إلى الحكاية، ولا إلى القدرة على الإلهام، ولا يتراجع إذا ما قورن بغيره؛ هو ببساطة لم يتعلّم بعد كيف يفتح أبوابه، السياحة ليست حملة إعلانية، بل منظومة دولة؛ تبدأ بقرار سياسي حول الفيزا، تمرّ عبر سياسة اقتصادية في الأجواء، وتستقرّ في عدالة تنموية على الأرض، وإزالة تعقيدات تراخيص المشاريع الفندقية وتشجيع الاستثمار السياحي الحقيقي.
الدول التي نجحت لم تُقنع العالم بها، بل سهّلت الوصول إليها، وحين فُتحت الأبواب، دخل الزوّار وحدهم، فكل سائح إضافي لا يعني ترويجًا فقط، بل إنفاقًا مباشرًا يدخل الاقتصاد فورًا بلا انتظار.
السؤال لم يعد كيف نُسوّق الأردن، بل متى تتوفّر الإرادة لذلك، ونقرّر بوضوحٍ وشجاعة أن نفتح له المجال، ونمكّنه من إكتشاف منتجنا السياحي، فالعالم لم يكن بعيدًا… كان فقط ينتظر أن يجد الباب مفتوحًا.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه في السياسات العامة ولا يتناول أشخاصًا أو جهات بعينها.
انتظروني في الحلقة القادمة نشرح كيف يمكن انشاء الالاف من الغرف الفندقية من فئة 3-4 نجوم، في كل من عمان والبترا والعقبة ووادي رم بدون انتظار استثمارات خارجية.