facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




النظافة ليست حملة ..


م. عامر البشير
18-12-2025 04:22 PM

كما انها ليست سلوكاً ... بل نظام حياة

تُقدَّم النظافة العامة، في الخطاب الرسمي، بوصفها مسألة سلوك فردي، أمرٌ يُعالج بالتوجيه، وينتهي بالعقوبة، غير أنّ المدن لا تُدار بالأخلاق وحدها، ولا تصبح نقيّة بالمخالفات وحدها أيضًا.

فبين ما يُقال في قاعات الاجتماعات، وما يُعاش فعليًا على الأرصفة، فجوة لا تسدّها النصوص القانونية، بل السياسات اليومية الصغيرة؛ تلك التي تُنظّم الزمن، وتضبط الإيقاع، وتُعيد تعريف علاقة الإنسان بفضائه العام.

هذه المقالة لا تتعامل مع النظافة بوصفها حملة، ولا تضع الناس في قفص الاتهام،
بل تحاول إعادة السؤال إلى موضعه الطبيعي:

كيف تضمن المدينة نظافتها؟

وكيف، في المقابل، تتسبّبّ بفوضاها؟

القانون… وحده لا يكفي

في كل مرة تُطرح فيها مسألة النظافة العامة على طاولة صنع القرار، تصل محمولة بخطاب جاهز:

قانون، عقوبة، مخالفة، كاميرا.

كأنّ الحكاية تبدأ بيدٍ ترمي كيسًا بلاستيكيًا من نافذة سيارة، وتنتهي بمحضر ضبط أو صورة مُلتقطة، لكن من عاش المدينة من الداخل—
من رصيفها لا من شرفات المكاتب— يدرك أن القصة أعمق بكثير من هذا الاختزال.

ما طُرح في الاجتماع الحكومي الأخير، وما تضمّنه البرنامج التنفيذي من لجان ومسارات وتشريعات، لا يمكن إنكار ما فيه من جدية مؤسسية.

حضور هذا العدد من كبار المسؤولين يعني، على الأقل، أنّ القضية لم تعد تفصيلًا تجميليًا.

غير أنّ الإشكال الحقيقي لا يبدأ من نقص الجهد، بل من خطأ التشخيص، العقوبة ضرورة… لكنها ليست حلًا، أنا مع تطبيق القانون للحدّ من إلقاء النفايات، بل ومع تغليظ العقوبة على هذا السلوك، بوصفه فعلًا غير أخلاقي، وغير حضاري، ويعبّر عن قطيعة مع أبسط قواعد العيش المشترك.

المجال العام ليس فضاءً بلا ذاكرة، ولا شارعًا عابرًا بلا معنى؛ هو صورة الناس عن أنفسهم حين يخرجون من بيوتهم، وامتحان يومي لمدى احترامهم لحق الآخرين في مدينة قابلة للحياة.

غير أنّ الاعتقاد بأنّ العقوبة—مهما اشتدّت—قادرة وحدها على تحقيق نظافة عامة،

هو تبسيط مخلّ لمشكلة أعقد من الفعل الفردي ذاته.

القانون يعاقب السلوك، لكنه لا يُنشئ النظام،

ولا يضبط الإيقاع اليومي للمدينة، يمكن للعقوبة أن تردع، نعم، لكنها لا تُنظّم الزمن، ولا تُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان ونفاياته، ولا تُصلح خللًا أنتجته سياسات يومية مرتخية، حين يُنتج النظام الفوضى المدينة لا تتّسخ فقط لأنّ هناك من يسيء السلوك، بل لأنّ نظامها يسمح للفوضى أن تكون هي القاعدة. وحين يُترك إنزال النفايات بلا توقيت، والحاويات بلا انضباط، والجمع بلا تزامن، يصبح الفضاء العام مسرحًا دائمًا للخطأ، مهما ارتفعت قيمة الغرامة، ومهما تكاثرت الكاميرات.

لذلك، فإنّ العدالة الحقيقية لا تكمن في تغليظ العقوبة وحدها، بل في أن يُسبَق القانون بنظام، وأن تُحاط العقوبة بسياسة، وأن يُحاسَب السلوك داخل مدينة لا تُغريه بالفوضى.

فالقانون، حين يُترك وحيدًا، يُنتج خوفًا مؤقتًا، أمّا النظام، فيُنتج سلوكًا مستقرًا… وتلك هي النظافة التي تستحق اسمها.

الحاويات… جوهر المشكلة

فالمدينة لا تتّسخ فقط لأنّ بعض الناس يسيئون السلوك، المدينة تتّسخ حين يُنتج نظامها اليومي الفوضى، في عمّان، مثلًا، ليست المشكلة الجوهرية في كيسٍ طائش يُرمى من مركبة عابرة، بل في آلاف الحاويات المعدنية المنتشرة في الأحياء والشوارع—حاويات مكشوفة، تُركت بلا تنظيم، فتحولت مع الوقت إلى نقاط جذب دائمة للنبش والتفريغ.

وجود أكثر من ثمانية عشر ألف حاوية مفتوحة على مدار الساعة في مدينة واحدة ليس تفصيلًا تقنيًا، بل وصفة جاهزة للفوضى، هذه الحاويات لا تُلوّث لأنها تحوي نفايات، بل لأنها مكشوفة تُقلب، ويُبعثر ما فيها على الأرصفة والشوارع والسّاحات والحواري، بحثًا عن الألمنيوم أو أي مادة قابلة للتدوير او للبيع، في اقتصاد هشّ لا يرى في النفايات سوى مورد.

ما نشهده هنا ليس انحرافًا فرديًا، بل نتيجة مباشرة لفشل تنظيمي تُدفع كلفته على حساب الأضعف.

قاعدة المدينة المنسيّة ثمّة قاعدة بسيطة في فهم المدن، كثيرًا ما يجري تجاهلها: لا يمكن مطالبة الناس بسلوك منضبط داخل نظام غير منضبط.

لن تُنقّى المدينة بملاحقة سيارة واحدة، فيما تبقى الحاويات مفتوحة ليلًا ونهارًا، تُفرّغ عشرات المرات بلا إشراف، ولا مواعيد، ولا انسجام مع إيقاع الحياة اليومية، ولن تُعيد الكاميرات الذكية احترام الفضاء العام إذا كان الزمن الحضري نفسه يُدار بلا عقل.

الحل يبدأ من الزمن إذا أُريد للحل أن يكون حقيقيًا، فعليه أن يبدأ من مكان آخر: من إعادة تنظيم العلاقة اليومية بين المواطن والنفايات، لا باعتبارها عبئًا يُرمى في أي وقت، بل عملية واضحة بزمن محدد.

على أمانة عمّان، مثلًا، أن تلتزم بجداول ثابتة لا تتغيّر، يعرفها الناس مسبقًا، ويضبطون سلوكهم على أساسها، نافذة زمنية ضيّقة لوضع النفايات— لا أكثر، عندها، يختفي منطق النبش تلقائيًا، تُغلق الحاوية قبل أن تُنتهك، ويتحوّل السلوك الفردي من عبء إلى شراكة، المدينة لا تحتاج إلى قوانين إضافية، بقدر ما تحتاج إلى إيقاع منتظم، النظافة بوصفها كرامة مكان النظافة ليست حملة موسمية، ولا شعارًا إعلاميًا، ولا خطابًا أخلاقيًا، هي نتيجة مباشرة لاحترام، الدولة للفضاء العام، وقدرتها على إدارة
التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة اليومية.

حين يرى المواطن مدينة منضبطة، يتصرّف بانضباط، وحين يرى الفوضى مُدارة ومُؤسَّسة، يبحث عن طرقه الخاصة داخلها.

مواجهة الإلقاء العشوائي لا تتحقق بالإنفاذ وحده، بل بإنفاذ العقل، فحاوية النفايات ليست أداة تقنية فحسب، بل نقطة تماس يومية بين المواطن والدولة، وطريقة إدارتها تعكس—ببساطة—كيف تُدار كرامة المكان.

خاتمة: اختبار الدولة حين تُحترم الكرامة، ينحسر التلوّث، وحين يُحترم الزمن، تحترم المدينة نفسها، في نهاية المطاف، ليست أزمة النظافة سوى مرآة لطريقة إدارة المدينة، حين يُترك الزمن بلا تنظيم، والفضاء بلا احترام، تصبح الفوضى سلوكًا عقلانيًا داخل نظام مختل، أمّا حين تُدار التفاصيل الصغيرة بجدية—مواعيد، إيقاع، وضوح— فإنّ السلوك العام يُصلح نفسه دون خطب ولا تهديد.

النظافة ليست امتحانًا للأفراد، بل اختبارًا للدولة: هل ترى في المدينة مساحة مشتركة تُدار بعقل؟ أم عبئًا يُراقَب بالعقوبة؟ حين تُدار المدينة باحترام، تصبح النظافة نتيجة طبيعية، لا معركة يومية، وحين يُعاد الاعتبار للزمن الحضري، تستعيد المدينة قدرتها على أن تكون مكانًا يُحترم…لا ساحة تُراقَب.

هل نريد مدينة تُعاقب القذارة؟ أم مدينة لا تُنتجها أصلًا؟





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :