ورثتُ ثوبًا عن والدي، وورثه والدي عن أبيه. لم نرَ الجد يومًا، لكن صوته ظل يتردد في البيت، يتسلل من أفواه الرجال كما تتسلل الحكايات القديمة من بين الشقوق. كان والدي يردد ما سمعه من أصغر أعمامه، عن العم الأكبر، عن وصية الجد ليلة الرحيل:
(هذا الثوب يقيكم حر الصيف وبرد الشتاء، لا يفنى ولا يتهالك، لا تلبسوا غيره، يتكيف مع مقاساتكم، ومع طبيعة أعمالكم، ولا حياة لكم بدونه).
كبرنا ونحن ننظر إلى الثوب كأنه خلاص العائلة وسر بقائها. لكنه لم يكن معلقًا في خزانتنا كثوب مثل بقية الثياب؛ بل كان سبب خصومة لا تنطفئ. والدي، الابن الأصغر، كان يرى أن قربه من أبيه في أيامه الأخيرة يمنحه الأحقية في امتلاكه. أما عمي الأكبر، فكان يلوّح بسنوات رعايته للأسرة، وبأنه الأجدر بحمل إرث الجد. كل واحد كان يمسك بطرف الوصية، ويشدها نحوه.
وحده عمي الأوسط وقف في المنتصف، هادئًا على غير عادة النزاعات، وقال إننا لم نفهم الوصية أصلًا. قال إن الجد لم يورثنا قماشًا، بل معنى: الستر، والاحتشام، والعيش بما يليق بالزمان. واستدلّ بالثوب نفسه؛ فقد وصلنا مرقّعًا، رقعة فوق رقعة، حتى ضاع لون نسيجه الأصلي، ولم نعد نعرف من أي خيط صُنع أول مرة.
لكن أحدًا لم يكن مستعدًا لسماع معنى لا يُمسك باليد.
أخي الأكبر لم يقتنع. حمل الثوب معه في أسفاره، ظنه زاد الطريق، فإذا به يتعثر به عند كل خطوة. كان يجرّ أطرافه كأنها أثقال ماضٍ لا ينتهي. حاول ترقيعه، أطاله حينًا وقصّره حينًا، لكن الثوب ظل غريبًا عن الطرق الجديدة.
أما أخي الأوسط فكان أكثر جرأة. ارتداه في البر والبحر، جعله بديلاً لبدلات الغوص، فأظهر الثوب عوراته أكثر مما سترها. أضاف رقعًا مقاومة للماء، وأخرى للرياح، وثالثة لتقلّب المناخات، حتى أثقله الترقيع، وتهالك أكثر.
ثم آل إليّ الثوب. حاولت ارتداءه في المصانع والمشاريع. كادت الآلات أن تفرمني حين علقت أطرافه بها. قصّرت الأكمام، ضيّقت الخصر، أضفت ألوانًا عاكسة حتى لا تدهسني المعدّات، لكن كل تعديل كان يخلق تمزقًا جديدًا، وكل إصلاح كان يحتاج رقعة أخرى.
أوصيت به أولادي، كما أوصاني أبي. لبسوه في غرف العمليات، ومختبرات الأنسجة، وغرف التشريح. تلوث الثوب، ونقل ما لم يكن يُرى، وترك خلفه آثارًا لم تكن في أي حساب. رقّعوه بكل ما وجدوا من أدوات ومعارف، لكن الثوب ازداد غربة، وازداد الترقيع، واتسعت الهوة بينهم وبين أبناء عمومتهم.
لم نعد نختلف فقط على طريقة لبسه، بل على تفسيره، وعلى ملكيته، وعلى من أساء استعماله أكثر. وكلما واجهت الأسرة تحديًا جديدًا، وجدنا شماعة جاهزة:
«لو لبستم الثوب كما يجب، لما حدث ما حدث».
واليوم، كلنا ندّعي أننا الورثة الحقيقيون، وأن فهمنا لوصية الجد هو الأصدق، والأكمل، والأقرب إلى الحق.
رحمك الله يا جدي…
هل ورّثتنا ثوبًا نلوذ به؟
أم تركت لنا حرية السؤال، فخفنا منها؟