شكرًا للصين… وللشعب الصيني
م. عامر البشير
21-12-2025 10:40 AM
حين يصبح الضبط قوّة …
درسٌ صيني في أخلاقيات العيش
ليست الأمم، في جوهر معناها، مرآةً لما تلتهمه من موارد العالم، بقدر ما هي انعكاسٌ لما تتركه خلفها للآخرين، فالقوّة، حين تُنزَع عنها الزينة الخطابية وضجيج الاستعراض، لا تُقاس بحجم الاستهلاك، بل بقدرة المجتمع على أن يحيا دون أن يضيّق على غيره مساحة الحياة.
من هنا تحديدًا، يظهر الحضور الصيني لا بوصفه تجربةً اقتصاديةً صاخبة، بل كسؤالٍ أخلاقيٍّ هادئ: كيف يمكن لأمّةٍ مكتظّة بالبشر أن تتحوّل من عبءٍ عالميٍّ محتمل إلى عنصر توازن في هذا العالم؟
إنّ التجربة الصينية لا تستدعي الاحترام لأنها متقدّمة تقنيًا فحسب، بل لأنها تُخاطب الواقع المعيشي للإنسان، لا أوهام الرفاه المعلّبة في الإعلانات، ثمّة فرقٌ جوهري بين تكنولوجيا تُنتَج لتُبهِر، وأخرى تُصمَّم لتُستَخدَم.
في الأولى، تتحوّل السلعة إلى علامةٍ طبقية ورمزٍ للتفوّق الشكلي؛ أمّا في الثانية، فتصبح أداةً لتسهيل الحياة، جزءًا من يوم البشر لا عبئًا إضافيًا عليهم.
وما اختارته الصين — بهدوءٍ وثبات — هو هذا المسار الأخير.
فالسيارات الكهربائية الخارجة من مصانعها لم تُصمَّم لنخبةٍ تبحث عن تأكيد المكانة الاجتماعية أو الطبقية، بل لطالب جامعة، أو عاملٍ متواضع، أو سائق تطبيقات نقل أو توصيل يريد يوم عملٍ لا تلتهمه كلفة الوقود ولا تُنهكه الصيانة، هكذا، تنزل التكنولوجيا من منصّة الرفاه إلى مستوى الكرامة.
وحين تُتاح الابتكارات لمن يحتاجها لا لمن يستعرضها، تتغيّر فلسفة الإنتاج ذاتها، من سباقٍ على لفت الانتباه، إلى خدمةٍ مندمجة في نسيج الحياة اليومية.
وعلى مستوى أعمق، لا تكتفي الصين بإنتاج السلع، بل تُعيد — من حيث لا ترفع شعارًا — توزيع الحق في العيش الكريم، فالكلفة التشغيلية المنخفضة، والتصميم الوظيفي، ونمط العيش الأقلّ إدمانًا على الإفراط والاستهلاك، ليست مصادفاتٍ اقتصادية، بل-كما يظهر … في تقديري - نتيجة تراكمٍ طويل من الوعي الجمعي.
فالموارد محدودة، والكثرة البشرية، إن تُركت بلا ضبط، تتحوّل إلى عبءٍ مشترك على البشريّة جمعاء.
وفي التفاصيل الصغيرة، حيث لا تتوقّف التقارير الرسمية طويلًا، تنكشف حكمةٌ أخرى، تقليل الاعتماد على القهوة، والحدّ من استهلاك القمح — وهو غذاءٌ أساسي لمجتمعاتٍ أفقر — ليس خيارًا بسيطًا كما يبدو، فكيف لو أنّ كل صيني يشرب أربعة أو خمسة فناجين قهوة يوميًا، ويأكل رغيفين من الخبز صباحًا ومساءً؟
أيّ كلفةٍ كانت ستُلقى على العالم؟ وأيّ ضغطٍ كان سيقع على أسواق الغذاء؟ وينسحب هذا المنطق ذاته على ضبط استهلاك الوقود والطاقة.
هذه ليست مظاهر تقشّف استعراضي، ولا أخلاقياتٍ مُعلَّبة، بل توازنٌ فطري بين الحاجة والرغبة، وحين تُمارَس هذه الخيارات الفردية من قِبل أمّة يتجاوز عددها المليار إنسان، فإنها تتجاوز حدود الفرد لتغدو فعلًا كونيًا، يُخفّف الضغط على الموارد، ويُسهم — بصمت — في استقرار الأسواق، هنا تتّضح قاعدة بسيطة، الخيارات الصغيرة، حين تتراكم، تُغيّر العالم.
فالتاريخ لا يُعاد توجيهه بالسياسيين وحدهم، بل بأنماط العيش أيضاً، وربما هنا تكمن المفارقة، لقد تركت الصين مساحةً للآخرين — لا بالانسحاب، بل بتنظيم الوفرة؛ لا بمنافسة العالم على كلّ شيء، بل برفض تحويل الموارد إلى ساحة صراعٍ دائم.
بهذا المعنى، ليست القوّة إفراطًا، ولا يُقاس الحضور بإزاحة الآخرين عن تفاصيل حياتهم اليومية، فالمعنى الحقيقي للوجود لا يكمن في استهلاك “الحصّة” كاملة، بل في إدراك اللحظة التي يصبح فيها الضبط توسعةً للأفق الإنساني المشترك.
ومن هذا الفهم، يغدو الامتنان فعلًا إنسانيًا، لا مجرّد مجاملة سياسية.
من هنا اتقدّم بشكرٌ صامت لشعبٍ اختار، بوعيٍ أو بتراكم تجربة، ألّا يخنق العالم بوفرةٍ غير منضبطة، ففي زمنٍ تتنافس فيه المجتمعات على فنجان قهوة، أو رغيف خبز، أو لتر وقود، يستحقّ الذين يتركون لك مساحةً لتعيش أن يُذكَروا.
لقد أدركوا، أبكر من كثيرين، أخلاقيات الوجود المشترك — وما يعنيه حقًا أن نعيش بإنسانية في عالمٍ كثيرًا ما ينسى هذه الحقيقة.
والمقارنة هنا ليست صراعًا حضاريًا، بل اختلاف فلسفة عيش، وثقافة استهلاك، بظلّ انّ الضبط فضيلة حضارية منسية.