حين يصبح العقد خصم الدولة
المحامي اسامة البيطار
23-12-2025 03:36 PM
لماذا ندفع ثمن النزاعات بالملايين؟
ليست المشكلة في أن الدولة الأردنية تخسر قضايا تحكيم بين الحين والآخر أمام القطاع الخاص؛ فهذا واقع تعيشه جميع الدول الإشكالية الحقيقية والخطيرة، أن كلفة هذه النزاعات – سواء خُسرت أو رُبحت – تتحول سنويًا إلى استنزاف بعشرات الملايين من الدنانير، نتيجة أخطاء منهجية لا تبدأ في قاعة التحكيم بل قبلها بسنوات، عند صياغة العقد، وإدارته، واتخاذ القرار.
فالتحكيم ليس لحظة مفاجئة، بل نتيجة حتمية لمسار تعاقدي مختل
وفي غالبية النزاعات التي تنتهي إلى تحكيم، يمكن تتبع الخلل إلى ثلاث مراحل سابقة:
1.مرحلة الصياغة التشريعية أو التعاقدية
2.مرحلة إدارة العقد أثناء التنفيذ
3.مرحلة اتخاذ القرار الإداري أو السياسي دون ملف إثبات مكتمل
وحين تصل القضية إلى التحكيم، يكون الضرر قد وقع بالفعل، وتتحول مهمة الدفاع إلى محاولة تقليل الخسائر، لا منعها.
أولًا: عقود بلا هندسة مخاطر
عدد كبير من العقود الحكومية، خصوصًا في مشاريع البنية التحتية والطاقة والنقل، ما زال يُصاغ بعقلية تقليدية لا تنسجم مع طبيعة العقود الحديثة، فتظهر فيه:
غموض في توزيع المخاطر و نصوص فضفاضة في التغيير والإنهاء و ضعف شروط الإخطار والتوثيق الزمني و غياب حدود واضحة للمسؤولية والتعويض و تداخل غير منضبط في أدوار المقاول والمصمم والمشرف
هذه الثغرات لا تُكتشف في السنة الأولى، بل تظهر عند أول تأخيرأو أول تعديل أو أول خلاف فني، فتتحول إلى مطالبات مالية ضخمة تجد طريقها لاحقًا إلى التحكيم.
الخطر هنا ليس فقط في سوء الصياغة، بل في أن كثيرًا من هذه العقود لم يُصمَّم أصلًا ليستوعب نماذج تنفيذ حديثة مثل عقود EPC أو BOT أو Design & Build، فيُطبَّق عليها نص قانوني لم يُكتب لها، فتتوسع المسؤوليات وتتعاظم المطالبات.
ثانيًا: إدارة عقد ضعيفة… وذاكرة مؤسسية غائبة
حتى في العقود الجيدة، فإن سوء إدارة العقد يُفرغ النص من قيمته.
في كثير من الملفات لا توجد محاضر اجتماعات منتظمة ، لا توثيق زمني معتمد للتأخير أو التغيير، لا ردود مكتوبة ضمن المدد التعاقدية، لا تقييم مبكر للمطالبات قبل تضخمها لا فريق فني يدعم القرار القانوني...وحين تُحال القضية إلى التحكيم، يُطلب من الدولة إثبات موقفها دون سجل متكامل، بينما يدخل الطرف الآخر بملف مُحكم الإعداد منذ اليوم الأول.
هنا لا يكون النزاع قانونيًا فقط، بل نزاع ذاكرة، وغالبًا ما تكون ذاكرة الدولة ناقصة.
ثالثًا: القرار الإداري غير المحمي… أغلى الأخطاء
أخطر ما تواجهه الحكومة في النزاعات التعاقدية هو اتخاذ قرارات إنهاء، أو تعليق، أو تعديل، أو تجميد مشاريع كبرى دون إعداد ملف قانوني–فني–مالي متكامل.
في هذه اللحظة، لا يُحاكم القرار من حيث وجاهته السياسية أو الإدارية، بل من حيث آثاره التعاقدية. وقد يكون القرار صحيحًا في جوهره، لكنه مكلف في أثره، لأن العقد لم يُصغَ ليحميه، أو لأن القرار لم يُوثّق بما يكفي.
وهم “ربح القضية”
من الأخطاء الشائعة الاعتقاد أن الدولة “ربحت” إذا لم تُلزم بتعويضات.
الحقيقة أن أتعاب المحكّمين و أتعاب الخبراء و أتعاب المحامين الدوليين (احيانا ) و كلفة الوقت وتعطّل المشاريع كلها تُدفع من المال العام، وقد تصل إلى ملايين الدولارات في القضية الواحدة، حتى دون صدور حكم بالتعويض.
وهنا يصبح السؤال مشروعًا ؟
هل نقيس النجاح بعدم صدور حكم ضد الدولة؟
أم بحجم ما أنفقته لتصل إلى هذه النتيجة؟
كمشتغل في التحكيم منذ سنوات، أقول بوضوح المشكلة الحقيقية تتمثل في غياب وحدات متخصصة بإدارة العقود والمطالبات و ضعف التنسيق بين القانوني والفني والمالي و غياب نماذج تعاقدية حديثة موحدة و عدم التعلم المؤسسي من النزاعات السابقة فالدولة لا تُهزم في التحكيم لأن الطرف الآخر أذكى، بل لأنها تدخل النزاع أحيانًا بعقد غير مُحكم، وملف غير مكتمل، وقرار غير محمي.
فإذا كانت الحكومة جادة في وقف هذا النزيف، فالحلول واضحة وقابلة للتنفيذ وهي
1.إنشاء وحدة مركزية لإدارة العقود والنزاعات في المشاريع الكبرى
2.إلزامية مراجعة المخاطر التعاقدية قبل التوقيع
3.توحيد وتحديث نماذج العقود الحكومية بما يواكب العقود الحديثة
4.تدريب كوادر متخصصة في إدارة المطالبات والتأخير والتكلفة
5.إنشاء قاعدة بيانات وطنية للنزاعات والتحكيم
6.نشر تقرير سنوي شفاف عن كلفة النزاعات على المال العام