الوطن الذي تحرسه القيم لا الشعارات
إيليا أيمن الربضي
25-12-2025 02:31 AM
مع تعاقب الأزمنة، تُولد البدايات من رحم النهايات، غير أنّ ميلاد السيد المسيح عليه السلام كان إستثناءً فريدًا في مسار التاريخ الإنساني؛ فكان لحظةً تجاوزت منطق الزمن ذاته؛ لحظةً أنهت إنكسار الإنسان الأخلاقي، وإفتتحت عهدًا جديدًا قِوامه الفداء، وميزانٌ نابِضُةُ المحبة، وغايته خلاص الإنسان من قسوة قلبه قبل خطاياه. إذ جمع في آنٍ واحد نهاية السقوط الأخلاقي للإنسان وبداية خلاصه، نهاية منطق الأنانية وبداية عهدٍ جوهرة الفداء والمحبة والتضحية. إنّ هذه اللحظة النقيّة، التي قامت على الإيثار لا الإدّعاء، وعلى المحبة لا الإقصاء، تعيد الإنسان –كلّ إنسان– إلى جوهره الأصيل، إلى تلك المساحة العميقة التي لا تخضع لصخب السياسة ولا لضجيج الفتاوى المتنازعة، بل لميزانٍ واحد لا يختل: الإلتزام الأخلاقي الذي يُشكل العمود المُقام للعقد الإجتماعي لأي مجتمع سَويّ.
فلم يكن الميلاد حدثًا عابرًا في سجل التاريخ، بل إعلانًا أخلاقيًا كونيًا بأن الإنسان لا يسمو إلا حين يُحب، ولا يَخلص إلا حين يُنقذ غيره من وحدته وخوفه. فكانت هذه المحطة النقيّة، المتجرّدة من الصخب والإدّعاء، تعيد الإنسان إلى ذاته الأولى؛ إلى ذلك الجوهر الذي تلتقي عنده الشرائع السماوية كلّها، حيث تصبح المحبة التزامًا أخلاقيًا لا شعارًا، ومسؤوليةً لا ترفًا، وحيث يُقاس الإيمان لا بِحدّة المواقف بل بعمق الرحمة، ولا بكثرة الأقوال بل بصدق الأفعال.
فالديانات والشرائع السماوية جميعها، دون إستثناء، لم تُبعث لتُقسّم البشر، بل لتسمو بهم، ولم تُشرَّع لتزرع العداوة، بل لتُرسّخ محبة الإنسان لأخيه الإنسان. وقد لخّص المسيح عليه السلام هذا المعنى بأوضح عبارة حين جعل محبة الغير على إختلافه أصل الوصايا وغايتها، وهو جوهرٌ لا يتناقض مع أي شريعةٍ سماوية، بل تلتقي عنده جميعها.
ولم أخبر بحياتي في يومٍ من الأيام مما قرأت أو إطلعت، عبر تاريخ الإنسان، بأن تمني الخير للآخر، أو مشاركته الفرح، أو الوقوف إلى جانبه في لحظاته الرمزية، جريمةً أو خطيئة يُعاقب عليها الشارِّعُ السماويّ!
ففي زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات ويضيق فيه الأفق، يصبح هذا الالتزام الأخلاقي ضرورة وطنية قبل أن يكون قيمة روحية. بل إنّ هذا السلوك الأخلاقي هو ما تحتاجه أوطاننا اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، خصوصًا في ظل ما تتعرض له منطقتنا من مشاريع تفكيكٍ وصراعاتٍ مقصودة، تستهدف الوعي قبل الأرض، والإنسان قبل المكان والزمان.
وفي وطني الأردن الحبيب، الذي طالما شكّل نموذجًا فريدًا في العيش المشترك بالمنطقة والعالم على حدٍّ سواء، لا ترف لنا في تمزيق الوجدان الجمعيّ، ولا مصلحة لنا في تفكيك وحدتنا الداخلية، في وقتٍ تتقاطع فيه التحديات الكبرى التي تستهدف الأرض والهوية والحق، فتراهن على الشرخ الإجتماعي تمهيدًا لتصفيةِ كثيرٍ من قضايا المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية على حساب الجغرافيا والإنسان، وعلى حساب حق العودة الذي لا يسقط بالتقادم ولا بالتواطؤ المقصود.
وعليه، فإن مواجهة هذه الأخطار لا تكون بالإنغلاق ولا بالمزاودة، بل بتماسك النسيج الوطني، والإصطفاف الواعي خلف قيادتنا، وإدراك أن ما يجمعنا –مُسلمين ومسيحيين– أكبر وأعمق من أي خطابٍ إقصائي عابر. لأن التماسك بين أبناء الوطن، مسلمين ومسيحيين، لم يكن يومًا تفصيلًا ثانويًا في تاريخ الأردن، بل كان دائمًا صمّام أمانه الأخلاقي والوطني، فأعيادنا ليست متقابلة بل متجاورة، وأحزاننا ليست متباعدة بل مشتركة، لأن المصير حين يُختبر لا يسأل عن الطائفة، بل عن الموقف، لأن المصير واحد، والأرض واحدة، والوجع واحد!
وفي هذه الليلة المباركة، ليلة ميلاد مسيح السلام والمحبة، أتقدم وأسرتنا المتواضعة إلى الأهل والأقارب والأصدقاء وكل من يرغب في أن يحتفل أو يشارك الآخرين فرحهم، بالدُعاء متمنيًا لكم من الخير والطمأنينة ما تتمنّونه لأنفسكم وما يليق بقلوبكم، على أمل أن تبقى المحبة أعلى من الضجيج، والإنسانية أسبق من كل خلاف والقيم أعلى من كل تأويل.