facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




أتمتة التفكير


د. صالح سليم الحموري
26-12-2025 04:40 PM

في نهاية اجتماعٍ طويل، بقي المدير وحده في القاعة. على الطاولة أوراق مبعثرة، وعلى الجدار شاشة تعرض مؤشرات الأداء. ضغط زرًا في جهازه اللوحي، فظهرت رسالة: «التوصية الأفضل: الخيار (ب)». قرأها مرتين ثم تساءل: هل هذا قرارٌ أم مجرد نتيجة؟ وهل ما يحدث الآن تفكير… أم سرعةٌ في الحساب؟
منذ الحواسيب الأولى والإنسان يسأل: هل يمكن للآلة أن تفكر؟ كان سؤالًا أقرب للفلسفة، لكنه اليوم يطرق أبواب المؤسسات في صورة منتجات جاهزة ولوحات قيادة وأنظمة توصية وروبوتات محادثة تكتب وتلخّص وتقترح. ومع كل اقتراح جديد تتسع مساحة التفويض: جزء من التحليل ينتقل إلى الآلة، وجزء من الوقت يعود للإنسان… أو هكذا نظن.

لكن المشكلة تبدأ من التعريف: التفكير ليس قطعة واحدة تُفك وتُركّب. إنه خليط من المنطق الذي يربط الأسباب بالنتائج، والخيال الذي يفتح أبوابًا جديدة، والحكم القيمي الذي يميّز بين الممكن والمقبول، والحدس الذي يلتقط ما لا تقوله البيانات. والذكاء ليس سرعة الإجابة، بل التعلم والتكيّف وفهم العلاقات. لذلك، حين نقول «أتمتة التفكير» فنحن غالبًا نؤتمت بعض طبقاته، لا جوهره كله.

ومع ذلك لا يمكن إنكار ما أنجزته الآلة. في التمويل تقترح الأنظمة منح القروض أو رفضها وفق مؤشرات معقّدة. وفي مكافحة الاحتيال تلتقط الخوارزميات نمطًا شاذًا قبل أن تراه عين بشرية. وفي سلاسل الإمداد تتنبأ النماذج بالاحتياجات قبل أن يرن هاتف الشراء. إنها أتمتة للتفكير التحليلي حين تكون المشكلة محددة، والمعايير واضحة، والبيانات غزيرة.

ثم جاءت موجة اللغة: صارت الآلة تكتب وتلخص وتترجم وتناقش، حتى بدت كأنها تفهم. استخدمها المدير في مسودة خطاب وتلخيص تقرير طويل وتوليد بدائل لقرار. لكنه تردد: فاللغة ليست وحدها دليل فهم، وبراعة الشطرنج ليست دليل حكمة. هناك مناطق تتغير فيها قواعد اللعبة: القيم، والسياق، والمسؤولية.

تخيّل قرارًا يمس حياة الناس: توزيع خدمات، أو ترتيب أولويات، أو منحٌ ومنع. هنا لا تكفي الأرقام؛ تظهر العدالة والكرامة والمصلحة العامة وأثر القرار على الثقة. الآلة لا تملك منظومة قيم ذاتية، بل تنفذ ما صُممت عليه. ثم يأتي السياق، ذلك الذي يُقرأ بين السطور: ثقافة المجتمع، حساسية التوقيت، الرموز والذاكرة الجمعية. ومع السياق يظهر الحدس المبني على خبرة عميقة؛ قرارٌ صحيح رغم نقص البيانات. الذكاء الاصطناعي قد يحاكي الأنماط، لكنه لا يعي ولا يتحمل ثقل الخطأ. وحتى الإبداع الذي يولده غالبًا إعادة تركيب؛ يُحسن الصياغة ويقترح احتمالات، لكنه لا يخلق معنى من تجربةٍ ولا يحمل ذاكرة مجتمع.
وتبقى النقطة الحاسمة: المسؤولية. إذا وقع خطأ جسيم لا تستطيع المؤسسة أن تقول «النظام أخطأ» وتنتهي. من اختار النموذج؟ من زوّده بالبيانات؟ من حدد معيار النجاح؟ القرار النهائي سيظل إنسانيًا قانونيًا وأخلاقيًا، ويحتاج حوكمة وضوابط وخطوطًا حمراء لما لا يُفوَّض.

هنا تغيّر سؤال المدير: ربما لا نحتاج أتمتة التفكير بقدر ما نحتاج تعزيز التفكير. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون فريقًا من «وكلاء افتراضيين»: يرصد الاتجاهات، يختصر التقارير، يحاكي السيناريوهات، وينبّه للمخاطر—ليحرر وقت القائد للرؤية وصياغة الأسئلة الكبرى. يعود إلى التوصية «الخيار (ب)» ويكتب تحتها: لماذا؟ وعلى حساب من؟ وبأي قيم؟ وفي أي سياق؟ ومهمة القائد أن يسأل ويوازن ويحمي القيم قبل أن يعتمد أي توصية نهائية اليوم. ثم يبتسم: الشراكة الواعية هي الطريق، ذكاءٌ اصطناعي شريك في التفكير، لا بديلًا عن الإنسان، ومساعد في القرار لا صاحب قرار.

وبس خلّص، يا زلمة خليه يساعدك… بس لا تسلّمُه عقلك. خلّي عقلك برأسك واعرف خلاصك.

*د. صالح سليم الحموري
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :