الدكتور جعفر حسان .. حين يتقدّم الفعل على الخطاب
د. مثقال القرالة
27-12-2025 01:14 PM
في مرحلةٍ تاريخيةٍ أثقلت فيها السياسةُ آذانَ الناس بضجيج الشعارات، وتراكمت فيها الخطب حتى فقدت قدرتها على الإقناع، وتخمّرت الذاكرة العامة بعباراتٍ رنّانة لم تُنتج واقعاً يُلمس، يبرز اسم جعفر حسان بوصفه حالة مختلفة في المشهد العام؛ حالة لا تقوم على الصخب، ولا تتغذّى على الميكروفون، بل تستند إلى منطق الفعل الهادئ، والعمل المتراكم، والانضباط الصارم لفكرة الدولة بوصفها مسؤولية لا استعراضاً. هو استثناء لا يُقاس بارتفاع الصوت، بل بثقل القرار، ولا يُقرأ من خلال التصريحات، بل يُفهم عبر المنهج، ويُحكم عليه من خلال الأثر. شخصياً، لم أسمع لدولة الدكتور جعفر حسان تصريحاً مثيراً، ولا عبارة صُنعت بعناية لتُقتطع وتُعاد في نشرات الأخبار، ولا جملة تبحث عن تصفيقٍ سريع أو تخليدٍ لفظي. لم أسمع حديثاً عن “الأيام الجميلة القادمة”، ولا سرديات “الخروج من عنق الزجاجة”، ولا تلك المفردات المستهلكة التي ألفناها في مراحل سابقة، حين كان الكلام يسبق التخطيط، وتسبق الصورةُ الإنجاز، وتُقدَّم العناوين على الحسابات. لم يكن حاضراً في سباق الجمل الرنّانة، ولا في مزاد الوعود، ولا في صناعة الأمل السهل. كان، على الدوام، في مكانٍ آخر: حيث تُدار الملفات، وتُفحص الأرقام، وتُوزن القرارات بميزان الدولة لا بميزان اللحظة.
ما رأيته وما يراه كثيرون هو رجل دولة لا ينشغل بتصدير الشعارات إلى مسامع الناس، بل بتصدير الحلول إلى واقعهم. رجل يدرك أن المواطن الأردني لم يعد متعطشاً للخطاب، بل للنتيجة؛ ولم يعد يبحث عن وعدٍ جديد، بل عن تحسّنٍ ملموس ولو كان تدريجياً. يدرك أن الثقة العامة لم تعد تُستعاد بجملةٍ ذكية، بل بسلوكٍ مسؤول، وبمسارٍ واضح، وبقراراتٍ لا تتناقض مع نفسها عند أول اختبار. وهذا، في جوهره، هو أصل الفلسفة الرشيدة في الحكم: أن ترى العيون ما تسمعه الآذان، أو على الأقل أن تسمع أقل مما ترى. من هنا، تبدو الزيارات الميدانية في نهج دولة الدكتور جعفر حسان ليست تفصيلاً بروتوكولياً، ولا حركة علاقات عامة، بل جزءاً أصيلاً من عملية صنع القرار. هو لا يكتفي بما يُرفع إليه من تقارير، ولا يطمئن إلى الأرقام ما لم يرَ سياقها على الأرض، ولا يتخذ قراراً مفصلياً دون أن يختبر أثره المحتمل في الميدان. ففي الميدان تسقط المساحيق، وتتراجع اللغة المنمّقة، ويظهر الفارق الحقيقي بين ما كُتب وما يُعاش. هناك، تتكشّف الفجوة بين المركز والأطراف، بين التخطيط والتنفيذ، بين النص والواقع. والقرار الذي يُصاغ بعد المعاينة المباشرة، يكون بطبيعته أقرب للناس، وأكثر عدلاً، وأقل كلفة على الدولة.
إن النزول إلى الميدان، في فلسفة جعفر حسان، هو فعل حكم بامتياز، لأنه يعيد ربط رأس القرار بقاعدته الاجتماعية، ويمنع تشكّل دولة مكتبية معزولة عن نبض الشارع. هو إقرار ضمني بأن المعرفة لا تكتمل داخل الجدران، وأن المسؤولية لا تُمارس من خلف المكاتب فقط، وأن احترام المواطن يبدأ بالاستماع له في مكانه، لا باستدعائه إلى قاعة مكيفة. بهذا المعنى، تصبح الزيارة الميدانية أداة تصحيح، لا مجرد حضور، وآلية مساءلة ذاتية، لا صورة عابرة. فنهج دولة الدكتور جعفر حسان يقوم، في جوهره، على عقل الدولة لا عاطفة المنصة. على إدارة الممكن بعقلانية، لا مطاردة المستحيل بخطابٍ انفعالي. على التدرّج الواعي، لا القفز الخطابي الذي يُراكم التوقعات أكثر مما يُنتج النتائج. هو لا يبالغ في الوعود، لأنه يعرف أن الإفراط في الوعد هو أول أبواب الإخفاق، ولا يستعرض الكلمات، لأنه يؤمن أن الدولة تُدار بالملفات لا بالميكروفونات، وبالأرقام لا بالإنشاء، وبالالتزام لا بالانفعال.
في حضوره هدوء الواثق الذي لا يحتاج إلى رفع صوته ليُسمع، وفي أدائه صرامة المسؤول الذي يعرف حدود الممكن وحدود الخطر، وفي قراره انحياز واضح لفكرة الدولة بوصفها مؤسسة مستمرة، لا مسرحاً مؤقتاً. لا يتعامل مع المنصب كواجهة اجتماعية، بل كأداة عمل ثقيلة، ولا يرى في السلطة فرصةً للظهور، بل عبئاً أخلاقياً وإدارياً يجب أن يُدار بأعلى درجات الانضباط والكفاءة. هذا الفهم العميق لطبيعة السلطة هو ما يفسّر ابتعاده عن الضجيج، وتمسّكه بالمسار، وإصراره على أن يكون الإنجاز لا الخطاب هو معيار التقييم. الأهم من ذلك، أن هذا النمط من القيادة يعيد الاعتبار لفكرة العمل الصامت، ذلك العمل الذي لا يطلب الثناء، ولا يعيش على التصفيق، لكنه يُراكم الثقة ببطءٍ وثبات. عمل يعرف أن الشرعية الحقيقية لا تُستمد من جملةٍ محفوظة، بل من مسارٍ يُلمس، ومن قرارٍ يُخفّف عبئاً، أو يحلّ مشكلة، أو يفتح نافذة أمل حقيقية ولو كانت محدودة. هو عمل يؤمن بأن بناء الدولة عملية تراكمية، لا قفزة إعلامية.
إن دولة الدكتور جعفر حسان لا يراهن على ذاكرة الخطاب، بل على ذاكرة الإنجاز. لا يسعى لأن يُذكر بعبارةٍ لامعة، بل بأن يُقاس بمحصلةٍ واقعية. لا يطلب إعجاب اللحظة، بل احترام الزمن. وهذا هو الفارق الجوهري بين من يريد أن يُسمَع، ومن يريد أن يُنجِز. قد لا يكون الأكثر حضوراً في العناوين اليومية، لكنه بلا شك من الأكثر اقتراباً من جوهر الدولة الحديثة: دولة تعمل، لا دولة تتكلم؛ دولة تُدير التحديات بعقلٍ بارد، وإرادة ثابتة، ومسؤولية أخلاقية تجاه مواطنيها. وفي زمنٍ بلغ فيه الإرهاق العام من الخطاب ذروته، يبدو هذا النهج ليس خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة وطنية. فالدول لا تُبنى بالصوت العالي، بل بالقرار المتزن، ولا تستعيد ثقة شعوبها بالوعود، بل بالأفعال. هكذا يُقاس الرجال في مواقع القرار: بما يتركونه من أثرٍ حقيقي، لا بما يرفعونه من شعارات؛ وبما يغيّرونه في الواقع، لا بما يلمع في الذاكرة.