الاقتصاد الأردني بين إنذار الضمان وخيار القفزة الاستثمارية المحسوبة
م. سعيد المصري
27-12-2025 01:22 PM
لا يواجه الاقتصاد الأردني اليوم أزمةً فورية، لكنه يقف بوضوح عند مفترق قرارات مصيرية. فالمؤشرات الكلية ما تزال تحت السيطرة، غير أن مساراتها المتوسطة والطويلة الأجل تثير تساؤلات جدية حول قدرة النمو الحالي على حماية الاستقرار المالي والاجتماعي في السنوات القادمة.
ويبرز في مقدمة هذه التساؤلات اقتراب صندوق الضمان الاجتماعي من نقطة التعادل الأولى بين إيراداته التأمينية ونفقاته بحلول عام 2030، دون احتساب عوائد الاستثمار. وهو مؤشر لا يمكن التعامل معه كمسألة محاسبية داخلية، بل كإنذار اقتصادي يعكس طبيعة النمو، وهيكل سوق العمل، واتساع الاقتصاد غير الرسمي.
اقتصاد ينمو… دون أن يتوسع قاعديًا
المشكلة الجوهرية في الاقتصاد الأردني ليست غياب النمو، بل محدودية أثره القاعدي. فالنمو المحقق لا يترجم إلى توسع موازٍ في قاعدة المكلفين الضريبيين، ولا في عدد المشتركين الفاعلين في الضمان الاجتماعي، ولا في حجم الوظائف الرسمية المستقرة.
ويعود ذلك إلى ثلاثة اختلالات مترابطة: اتساع الاقتصاد غير الرسمي، محدودية الاستثمارات الجديدة كثيفة التشغيل، وهيمنة الإنفاق الجاري على الموازنة العامة.
وفي ظل هذه المعادلة، يصبح الضغط على الضمان الاجتماعي نتيجة طبيعية، لا بسبب خلل في إدارته، بل بسبب ضعف الدورة الاقتصادية التي تغذي اشتراكاته.
رؤية التحديث الاقتصادي: الرهان ليس في الرقم بل في التحول
افترضت رؤية التحديث الاقتصادي جذب استثمارات سنوية بحدود 3.6 مليار دينار على مدى عقد كامل. غير أن القيمة الحقيقية لهذا الرقم لا تكمن في حجمه، بل في ما يفترض أن يولده من تحولات بنيوية:
خلق وظائف رسمية جديدة، إدماج الاقتصاد غير الرسمي، توسّع أفقي في القاعدة الضريبية، وزيادة إيرادات الضمان الاجتماعي من الأجور لا من الاستثمارات.
وعند تحقق هذا المسار، لا يعود عام 2030 مصدر قلق، بل نقطة عبور نحو استدامة مالية واجتماعية أوسع.
إدماج الاقتصاد غير الرسمي: حجر الزاوية الصامت
أي إصلاح مالي أو استثماري لا يمر عبر إدماج الاقتصاد غير الرسمي سيبقى ناقصًا. فالتوسّع في القاعدة الضريبية والتأمينية هو الطريق الوحيد لزيادة الإيرادات دون إثقال كاهل المجتمع أو المساس بالطبقة الوسطى.
إدماج هذا الاقتصاد لا يعني الجباية فقط، بل يعني قبل ذلك تبسيط الإجراءات، رقمنة الخدمات، توحيد النوافذ، وربط الترخيص بالضمان والضريبة، بما ينقل النشاط الاقتصادي من الهامش إلى القلب، ويحوّل النمو من حالة ظرفية إلى مسار مستدام.
القفزة المطلوبة: اقتراض رأسمالي محسوب لفتح الباب أمام الاستثمار
الانتقال من اقتصاد مُدار بالإنفاق الجاري إلى اقتصاد جاذب للاستثمار المنتج لن يحدث تلقائيًا. بل يتطلب قفزة تمويلية محسوبة، غالبًا عبر اقتراض إضافي موجّه للإنفاق الرأسمالي، خصوصًا في مشاريع البنية التحتية الجديدة.
هذه القفزة لا تهدف إلى توسيع دور الدولة في الاقتصاد، بل إلى تهيئة الأرضية التي تسمح للقطاع الخاص بالدخول شريكًا وممولًا ومستثمرًا، سواء في مشاريع البنية التحتية ذاتها ضمن شراكات القطاعين العام والخاص، أو في القطاعات الاقتصادية الإنتاجية كافة: الصناعة، التجارة، السياحة، الزراعة، والخدمات.
وقد يترتب على هذه القفزة تراجعٌ مؤقت في بعض مؤشرات “الحُسن” المالي، إلا أن كلفتها تبقى انتقالية ومحدودة مقارنة بعائدها الاستراتيجي على المدى البعيد.
البنية التحتية كرافعة استثمار لا كعبء مالي
في الحالة الأردنية، تبرز مشاريع بنية تحتية لا يمكن إطلاق شراكاتها دون التزام حكومي أولي، من أبرزها مشروع المياه الوطني (تحلية العقبة–عمّان)، الذي تُقدّر كلفته الإجمالية بنحو ستة مليارات دولار، حيث تتطلب نماذج الشراكة عادة مساهمة حكومية أو تمويلًا سياديًا ميسرًا يتراوح بين ربع وثلث الكلفة، موزعة على عدة سنوات، لتمكين استقطاب التمويل الخاص الأكبر.
وينسحب الأمر ذاته على مشاريع النقل العام واللوجستيات، حيث تقتصر مساهمة الحكومة غالبًا على الأعمال المدنية وفجوة الجدوى، بما يفتح المجال أمام القطاع الخاص لتولي التشغيل والاستثمار. كما تمثل رقمنة الحكومة وبنية الاستثمار الرقمية عنصرًا حاسمًا، رغم كلفتها الأقل، نظرًا لدورها في تقليص البيروقراطية، ورفع الثقة، وتحسين بيئة الأعمال.
الإصلاح الضريبي كأداة تمكين لا كتنازل مالي
تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار الواسع لا يتطلب خفضًا شاملًا للنسب الضريبية، بل إصلاحًا ضريبيًا موجّهًا وذكيًا.
النهج الأكثر واقعية يتمثل في تخفيض مؤقت ومحدد لضريبة دخل الشركات على الاستثمارات الجديدة فقط، وتحييد ضريبة المبيعات على مدخلات الاستثمار والإنتاج، وتسريع الاسترداد الضريبي وربطه بالامتثال والرقمنة.
مثل هذه الحزمة قد تكلّف الخزينة خفضًا مؤقتًا في الإيرادات يتراوح بين 300 و600 مليون دينار سنويًا لمدة محدودة، وهو خفض محسوب يرفع العجز مرحليًا، لكنه يُستثمر في بناء قاعدة اقتصادية أوسع وأكثر إنتاجية.
دعم الصادرات: الحلقة الحاسمة بعد توسيع قاعدة الاقتصاد الوطني
بعد توسيع قاعدة الاقتصاد الوطني وجذب استثمارات سنوية كبيرة، يصبح دعم الصادرات شرطًا حاسمًا لنجاح المسار بأكمله. فالسوق الأردني، بحجمه المحدود، لا يستطيع استيعاب مخرجات توسّع صناعي وخدمي واسع، مهما تحسّن الطلب المحلي.
قدرة القطاع الخاص على تحقيق عوائد مستدامة، ومن ثم إعادة استثمار أرباحه، ستبقى مرهونة بفتح الأسواق الخارجية، الإقليمية والعالمية. وعليه، لا يُفهم التصدير هنا كنشاط تجاري فقط، بل كأداة استراتيجية لتعظيم أثر الاستثمار، وتحسين الميزان الخارجي، وتعزيز الاستقرار النقدي، وتوسيع التشغيل الرسمي.
ولإنجاح هذا التحول، لا بد من استكمال الإصلاحات بحزمة سياسات داعمة للصادرات، من أبرزها:
إعادة تفعيل أدوات دعم الصادرات بشكل ذكي وموجّه، عبر برامج مرتبطة بالقيمة المضافة المحلية والتشغيل والأسواق الجديدة، لا بالدعم الأفقي غير المشروط.
تحويل الاتفاقيات التجارية من نصوص قانونية إلى أدوات نفاذ فعلي للأسواق، خصوصًا للشركات الصغيرة والمتوسطة.
بناء سياسة تصدير إقليمية موجهة لدول الجوار، تقوم على التكامل الاقتصادي مع العراق ودول الخليج، وسوريا مستقبلًا.
ربط التصدير بالتحول الرقمي من خلال منصات حكومية موحدة تختصر الوقت والكلفة وتحد من الأخطاء البشرية.
توسيع مفهوم الصادرات ليشمل الخدمات، لا السلع فقط، مستفيدًا من ميزات الأردن في التكنولوجيا، والصحة، والتعليم، والخدمات المهنية.
ومواءمة سياسات الطاقة والمياه والنقل للصناعات التصديرية بما يضمن قدرتها التنافسية دون تشويه شامل للأسعار.
إن جذب استثمارات سنوية بقيمة 3.6 مليار دينار دون سياسة تصدير نشطة قد يؤدي إلى اختناقات تسويقية وضغط على الأرباح. أما دمج الاستثمار بالإنتاج والتصدير، فيحوّل النمو من حدث مؤقت إلى مسار تراكمي مستدام.
حين “تسوء” المؤشرات لتحسُن جودة الاقتصاد
الانتقال من الإنفاق الجاري إلى الإنفاق الرأسمالي، ومن الجباية الرأسية إلى التوسع القاعدي، قد يؤدي مؤقتًا إلى ارتفاع نسبي في العجز وضغط مرحلي على الدين. إلا أن هذه الكلفة الانتقالية هي شرط لازم لجذب الاستثمار الجاد.
فالمستثمر لا يبحث عن مؤشرات لحظية جميلة، بل عن اقتصاد يستثمر في المستقبل، ويبني قدراته الإنتاجية، ويضمن استدامة الطلب الخارجي.
البنية الرقمية السيادية: استثمار بنيوي لا يقل عن الماء والنقل
ضمن مقاربة الاستثمار في البنية التحتية بوصفها رافعة لجذب الاستثمار المنتج، يبرز بند لا يقل أهمية عن مشاريع المياه أو النقل أو الطاقة، يتمثل في الاستثمار في البنية الرقمية السيادية للدولة، وعلى رأسها تأسيس مركز بيانات وطني للطبقة السيادية، مملوك للدولة وخاضع لولايتها الكاملة، ليكون الحاضنة الآمنة لبيانات الحكومة والقطاعات الحساسة، وأحد الأعمدة الصامتة لنجاح التحول الرقمي، وتحسين كفاءة الإدارة العامة، ورفع ثقة المستثمرين.
هذا الاستثمار لا يُطرح كمشروع تقني معزول، بل كجزء من الإنفاق الرأسمالي المحسوب الذي يفتح الباب أمام شراكات فاعلة مع القطاع الخاص في مجالات الإنشاء والتشغيل والطاقة والتبريد، وبما يسمح بربط المركز الوطني، ضمن ضوابط سيادية صارمة، بمراكز إقليمية في دولة الإمارات، وبمراكز متقدمة في شمال أوروبا، وذلك حصريًا لأغراض التكامل في الطبقات غير السيادية من المنظومة الرقمية، مثل تبادل النماذج التحليلية والقدرات الحسابية، دون نقل أو كشف أي بيانات وطنية حساسة.
وتُقدَّر الكلفة الإجمالية لهذا المسار الاستثماري، بما يشمل إنشاء مركز البيانات الوطني، وبنية الطاقة والتبريد، والربط الإقليمي والدولي، إضافة إلى مساهمة الأردن في المنظومة الرقمية المشتركة، بنحو 1.1 إلى 1.55 مليار دولار، موزعة على سبع إلى عشر سنوات، وبهيكل تمويلي يجمع بين مساهمة رأسمالية من الموازنة العامة، وشراكات مع القطاع الخاص، وتمويل دولي ميسر، بما يحد من الأثر السنوي على العجز، ويحوّل المشروع إلى أصل سيادي طويل الأجل.
بهذا الفهم، لا يُعد الاستثمار في البنية الرقمية عبئًا إضافيًا على المالية العامة، بل أداة تمكين للاستثمار، وتقليصًا للكلف غير المرئية، ورافعة للثقة، وحمايةً للسيادة الاقتصادية في اقتصاد باتت فيه البيانات والبنية الرقمية جزءًا لا يتجزأ من معادلة الأمن والتنمية والاستقرار.
خلاصة القول
الخيار أمام الأردن ليس بين الانضباط المالي والاستثمار، بل بين انضباط شكلي يجمّد الاقتصاد، وانضباط ذكي يقبل بتكلفة انتقال محسوبة لبناء اقتصاد أكثر منعة واستدامة.
الاستثمار في البنية التحتية، والإدماج الحقيقي للاقتصاد غير الرسمي، والإصلاح الضريبي الموجّه، ودعم الصادرات، ليست سياسات رفاهية، بل شروط بقاء اقتصادي.
فخفض بعض مؤشرات “الحُسن” اليوم قد يكون الثمن الضروري لرفع جودة الاقتصاد غدًا… وتأمين الضمان الاجتماعي من منبعه الطبيعي: العمل المنتج.