حين تتحوّل المنصّات إلى مسرح للسطحية المقنّعة
د. لينا جزراوي
28-12-2025 10:20 AM
يبدو أنّ ثمة متعةً خاصة، وربما إغواءً خفيًا، في الظهور العلني عبر الفيديوهات التي يقدّمها بعض الأشخاص المصنَّفين ضمن “عليّة القوم”. غير أنّ المفارقة اللافتة أنّ المحتوى الذي يقدّمونه لا يقل، في كثير من الأحيان، سذاجةً وسطحيّة عمّا يقدّمه غيرهم من البسطاء. لا أعمّم بالطبع، فثمة استثناءات جديرة بالاحترام، غير أنّ الظاهرة في مجملها تستدعي التوقّف والتحليل.
لا أستبعد أن أقدّم يومًا ما محتوى مرئيًا عبر هذه المنصّات، لكنّ الهدف – إن حدث – سيكون بالضرورة الارتقاء بما يُقدَّم، ومحاولة الإسهام في رفع الذائقة الفكرية، لا مجرّد ملء الفراغ الرقمي. ما يصعب فهمه حقًا هو هذا الكمّ من المحتوى السطحي الذي يقدّمه رجال أعمال ونساء أعمال، يزعمون فيه نقل “خبراتهم” أو تقديم “نصائح حياتية”، أو استعراض سير ذاتية لا تتجاوز في جوهرها التفاخر أو التكرار.
الأكثر إثارة للتساؤل أنّ بعضهنّ – وبعضهم – يكتفون بقراءة عبارات مقتطعة لفلاسفة ومفكرين عرب وعالميين، من دون أي فهم حقيقي لمعانيها أو سياقاتها، وهو ما يبدو جليًا في التعليقات المصاحبة لتلك الاقتباسات. تتحوّل الفكرة العميقة هنا إلى مجرّد زينة لغوية، تُستخدم لا لإثارة التفكير، بل لتجميل صورة المتحدّث.
كيف يمكن قراءة هذه الظاهرة؟
تبدو هذه المنصّات، من زاوية علم النفس والاجتماع، أشبه بمختبر مفتوح لدراسة احتياجات غير مُشبَعة لدى أصحابها. فما المتعة التي يفتقدها هؤلاء في حياتهم الخاصة، رغم ما يملكونه من مال ونفوذ ونجاح، ليدفعهم ذلك إلى الظهور المتكرر بمحتوى لا يضيف قيمة معرفية أو إنسانية تُذكر؟
الرغبة في الحديث عن تفاصيل الحياة اليومية، عن الأبناء والبنات، وعن أحداث شخصية لا تعني – في الغالب – أحدًا خارج الدائرة الضيقة، تكشف حاجة أعمق: حاجة لأن يُسمَع الصوت، لا لأن يُقال شيء مهم. ما يجمع أصحاب هذه الفيديوهات، على اختلاف أشكالهم وخطاباتهم، أنهم يمتلكون كل شيء تقريبًا… إلا من يُنصت إليهم بصدق واهتمام حقيقي.
هكذا يبدو المشهد من زاويتي: وفرة في المنصّات، ندرة في المعنى، وضجيج يغطّي على الأسئلة الأهم. ففي زمنٍ بات فيه الظهور غايةً بحدّ ذاته، لم يعد السؤال عمّا يُقال، بل لماذا يُقال. وبين منصّات تعجّ بالكلام، يبقى المعنى نادرًا، ويظلّ المحتوى القادر على إيقاظ الفكر، لا جذب الانتباه وحده، هو الامتحان الحقيقي لأي حضورٍ في الفضاء العام