حين أعلن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، في خمسينيات القرن الماضي، عن حملته الشهيرة تحت شعار “دع مئة زهرة تتفتح”، بدا المشهد، آنذاك، وكأنه لحظة انفتاح تاريخية. دُعي المثقفون والكتّاب إلى التعبير بحرية، وشُجّع النقد بوصفه ضرورة لتقويم الدولة والحزب.
غير أن ما تلا ذلك كان النقيض تمامًا؛ إذ تحوّلت المساحة الموعودة إلى فخ، وانتهى كثير من المثقفين في المعتقلات أو على هامش الحياة العامة. لم تكن المشكلة في النقد ذاته، بل في عدم استعداد السلطة لتحمّل نتائجه.
استحضار هذه الواقعة لا يأتي من باب المقارنة المباشرة أو الاتهام، بل من باب التحذير الهادئ من منطق يتكرر بأشكال مختلفة: فتح باب التعبير دون استعداد حقيقي لسماع ما يُقال، أو قبول ما قد يترتب عليه. وهذا ما يجعل الشعار جذابًا في ظاهره، لكنه هش في مضمونه إن لم يُدعَم بإرادة سياسية صادقة.
في السياق الأردني، تبدو المسألة أكثر حساسية؛ فالدولة تتحدث منذ سنوات عن التحديث السياسي، وتعزيز المشاركة، وتوسيع المجال العام. وهي عناوين حقيقية وضرورية، ولا يمكن لأي مشروع إصلاحي أن ينجح دونها؛ غير أن الاختبار الحقيقي لا يكون في النصوص ولا في التصريحات، بل في كيفية التعامل مع النقد حين يصدر من خارج الدوائر المألوفة، أو حين يلامس جوهر السياسات لا شكلها.
الإشكالية هنا ليست في وجود رأي معارض أو مقالة ناقدة أو موقف مختلف، بل في القراءة التي تُمنح له. هل يُنظر إليه كإسهام في النقاش العام؟ أم كتشكيك بالنوايا؟ الفرق بين القراءتين هو الفرق بين دولة واثقة بنفسها، ودولة تخشى سوء الفهم. وفي التجارب الحديثة، أثبتت الدول التي اختارت المسار الأول قدرة أكبر على الاستقرار والتكيف، فيما تأخرت الأخرى واستنزفت الوقت لمحاولات ضبط المزاج العام بدل فهمه.
الأردن، بتجربته السياسية الخاصة، لا يحتاج إلى استنساخ نماذج خارجية، ولا إلى رفع سقف الشعارات. ما يحتاجه هو إدارة ذكية للنقاش العام، تميّز بين النقد المسؤول والتجريح، وبين الاختلاف والخصومة؛ فالمجتمع حين تتوافر له مساحة آمنة للتعبير، يكون أكثر ميلًا للدفاع عن استقراره، لا العكس.
الدرس الذي يمكن استخلاصه من تجربة “دع الأزهار تتفتح” ليس الخوف من النقد، بل الخوف من التعامل معه بوصفه خطرا؛ فالأزهار لا تتفتح بالأوامر، ولا تموت بالنقد، لكنها تختنق حين يُطلب منها أن تتفتح بشروط غير قابلة للنقاش. وفي السياسة، كما في الطبيعة، المناخ هو الذي يصنع الفرق.