إلى هؤلاء .. تعظيماً للمساجد صلّوا في بيوتكم
د. بلال عبدالرحمن إبداح
30-12-2025 08:31 PM
في ظلّ الأحوال الجوية الماطرة الاستثنائية التي تشهدها بعض المناطق في بلدنا الحبيب، تبرز من جديد الدّعوة إلى تفعيل سنّة الصلاة في الرِّحال (البيوت)، اقتداءً بهدي النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم، وعملاً بروح التّيسير التي قامت عليها الشريعة الإسلامية.
ولعلّ من النصيحة الواجبة في هذا المقام أن نوجَّه الخطاب إلى بعض المصلّين الذين يظنّون أنّه لا مخرج لهم عند نزول المطر أو اشتداد الأحوال الجوية إلا الجمع بين الصلاتين، فترى بعضهم يلحّون بالطّلب على أئمّة المساجد بالجمع، وقد يتسبّب ذلك من حيث لا يقصدون في إثارة الجدل والجَلبة داخل المساجد.
وهنا ينبغي التذكير بأنّ الإمام مؤتمن على صلاة المصلّين، ومسؤول عن تقدير الأعذار الشرعية وفق الضوابط المعتبرة، وليس من الحكمة ولا من الأدب الشّرعي إحراجه أو منازعته في محرابه.
وليس من نافلة القول التّأكيد على أنّ مسألة الجمع بين الصلاتين غير خاضعة للأمزجة أو رغبات النفس، بل لها ضوابطا ومحدّداتها التي قرّرتها المذاهب الفقهية المعتبرة، والأخذ بهذه الرخصة يحتاج إلى فقه وحيطة وحذر، لأنها تعني في حقيقتها إخراج صلاة عن وقتها الأصلي الذي حدّده الشرع، وهو أمر عظيم لا يُتعامل معه بالتساهل أو التوسّع غير المنضبط.
وحتى لو افترضنا أنّ الإمام أخطأ في تقديره بعدم الجمع بين الصلاتين، فإنّ هذا الخطأ – إن وُجد – لا يبرّر بحال رفع الأصوات أو الاعتراض العلني داخل المسجد؛ فحرمة بيوت الله، ومقام الوقوف بين يديّ الله عزّ وجلّ للصلاة، مقدَّمة على اجتهادات فردية قد تصيب أو تخطئ.
كما أنّ هؤلاء المصلّين قد غفلوا عن مخرج شرعي آخر رحيم وواسع، وهو الصلاة في الرِّحال، التي شُرعت لدفع الحرج والمشقة، دون الحاجة إلى تعكير أجواء الرّوحانيّة في المساجد بخلافات كان يمكن تلافيها.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنّه قال لمؤذنه في يوم مطير: (إذا قلتَ: أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حيّ على الصلاة، قل: صلّوا في بيوتكم)، فلما استنكر الناس ذلك، قال: (فعله من هو خير مني، إنّ الجمعة عَزْمَة، وإنّي كرهت أن أُحرجكم فتمشون في الطين والدَّحض). والعَزْمَة، كما هو معلوم، هي ما كان واجباً بحقّ المكلَّف شرعاً.
وفي صحيح البخاريّ أيضاً: (أنَّ ابْنَ عُمَرَ، أذَّنَ بالصَّلَاةِ في لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ ورِيحٍ، ثُمَّ قالَ: ألَا صَلُّوا في الرِّحَالِ، ثُمَّ قالَ: إنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَأْمُرُ المُؤَذِّنَ إذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ ومَطَرٍ، يقولُ: ألَا صَلُّوا في الرِّحَالِ).
وهذا التوجيه النبوي المبارك يقدّم دليلاً واضحاً مفاده أنّ الرّخصة الشرعية في مثل هذه الأحوال الجوية لا تقتصر على الجمع بين الصّلاتين؛ بل تأخذ صورتين واضحتين: الجمع بين الصلاتين، والصلاة في الرِّحال، ولكلٍّ منهما أصل ثابت في السنّة النبوية.
ومع ذلك، نشدّد على أنّ الأخذ بالرخص الشرعية لا يكون على إطلاقه، بل له ضوابطه وأحكامه التي ينبغي الالتزام بها، مع ضرورة الرجوع إلى أهل العلم، حتى لا تتحوّل الرخصة إلى تهاون أو تفريط. فالأصل في الصلاة أن تؤدّى حيث يُنادى لها في بيوت الله تعالى، والرخصة إنما هي خروج عن هذا الأصل لعذر معتبر، كالمطر الشديد وما يسببه من مشقة حقيقية.
وفي هذا السياق أقول، ليت الناس ينتبهوا إلى الأخذ بالعزائم (الفروض) كما هم في جانب الحرص على الأخذ بالرّخص الشرعية عند الاستشهاد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ يُحِبُّ أنْ تؤتى رُخَصُه كما يُحِبُّ أنْ تؤتى عزائمُه).
والله من وراء القصد..