facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




مدن بلا ذاكرة مائية


م. عامر البشير
31-12-2025 01:56 PM

*
كيف يتحوّل المطر من موردٍ غائب إلى خطرٍ مُشرَّع

لم تعد الفيضانات الحضرية مجرّد حوادث عابرة يمكن ردّها إلى “عاصفة استثنائية”، ولا مشاهد موسمية تُستحضر مع المطر ثم تُنسى مع انقشاع الغيم، ما نشهده اليوم، في كثير من المدن، هو نمطٌ متكرّر يكشف خللًا عميقًا في علاقة المدينة بالمطر، وفجوةً واضحة بين ما نعرفه علميًا، وما يُمارَس تخطيطيًا وتشريعيًا، وتبدو المفارقة أكثر قسوة حين يحدث ذلك في مدنٍ تعاني أصلًا من شحٍّ مائي مزمن، حيث يُدار المطر بوصفه خطرًا يجب التخلّص منه، لا موردًا ينبغي حفظه وإدارته بحكمة.

في المدن الأردنية، كما في مدن كثيرة حول العالم، تتزايد حدّة العواصف وتتقارب فواصلها الزمنية، بالتوازي مع توسّعٍ حضري غير متوازن، وانتشارٍ واسع للأسطح الخرسانية، وتقادم شبكات تصريف صُمّمت وفق معايير لم تعد تعكس واقع المخاطر الراهنة، أحياء كاملة نشأت في مدينة عمّان، قبل أن تعرف معنى التخطيط أو البنية التحتية، ومداخل تصريف مياه الأمطار أُغلقت أو أُهملت تحت طبقات الإسفلت وأعمال الصيانة المتراكمة، ومع كل موسم شتاء، يتكرّر المشهد ذاته، مياه تتجمّع حيث لا ينبغي، وسيول تجتاح مساحات غير مهيّأة للاستيعاب، وخسائر تتراكم، ثم تليها تبريرات رسمية لم تعد تقنع أحدًا.

منذ سنوات، تجاوز الفكر الحضري المعاصر التعامل مع الفيضانات بوصفها حالات طوارئ معزولة، وانتقل إلى فهمها كجزءٍ من منظومة حضرية متكاملة، يمكن – إذا أُحسن التعامل معها – أن تتحوّل من عبءٍ ثقيل إلى فرصة كامنة، ومن تهديدٍ مباشر إلى أداة لتعزيز جودة الحياة والأمن المائي، غير أن هذا التحوّل يبقى منقوصًا ما لم يُترجم إلى تشريعٍ واضح، يعيد تعريف المطر داخل المدينة، وينقله من خانة المشكلة لمظلّة الإدارة الواعية.

فالفرق الجوهري بين فيضانات المدن وفيضانات الأودية لا يكمن في كمية المطر وحدها، بل في دور المدينة نفسها، المدينة الحديثة تُسرّع الماء؛ الشوارع المعبّدة، والأسقف الخرسانية، والكثافات العمرانية العالية، جميعها تُقصي التربة عن وظيفتها الطبيعية، وتحوّل الهطول إلى سيولٍ خاطفة ترتفع ذروتها بسرعة وتكشف هشاشة البنية التحتية، المشكلة في جوهرها، ليست في غزارة المطر، بل في طريقة استقباله، فالمدينة التي تُخطَّط على مستوى القطعة تطارد السيل، أمّا المدينة التي تُخطَّط على مستوى الحوض الحضري، فهي مدينة تُبطئ الماء قبل أن يتحوّل إلى خطر.

التخطيط الواعي لا ينقل الخطر من حيّ إلى آخر، ولا يصدّره من الأعلى إلى الأسفل، بل يعيد توزيعه داخل النسيج العمراني ذاته، وحدات حصاد مائي موزّعة، قنوات مفتوحة متدرجة، مساحات احتجاز مؤقتة، وتصميم يقوم على زمن وصول المياه لا على سرعة طردها، الهدف هنا ليس التخلّص السريع من المطر، بل كسر حدّته وخفض ذروته، فالمطر لا يصبح خطرًا لأنه غزير، بل لأنه مُعجَّل، وكل ثانية نُبطئ فيها حركة الماء نُقلّل حجم الخطر ونمنح المدينة فرصة للحماية.

وفي هذا السياق، لم تعد الحلول القائمة على الطبيعة ترفًا بيئيًا أو إضافات تجميلية، بل أصبحت جزءًا أصيلًا من البنية التحتية الحضرية. المساحات الخضراء، والأسطح الحضرية المزروعة، ليست خيارات جمالية، بل أدوات هندسية فعّالة، شريطة أن تخرج من نطاق المبادرات الفردية إلى إطار الالتزام التنظيمي، وأن تُربط برخص البناء وأذونات الإشغال، وأن تخضع لحساب الأثر الهيدرولوجي للمشاريع العامة والخاصة على حدّ سواء.

إن إدارة مياه الأمطار لم تعد مسألة تقنية صِرفة، بل اختبارًا حقيقيًا لفلسفة الدولة في التخطيط، ولمدى قدرتها على تحويل المعرفة إلى قانون، والقانون إلى حماية، والحماية إلى حقٍ عام، كما انه في ظل غياب كود وطني واضح لإدارة مياه الأمطار، ستبقى المعالجات مجتزأة، والقرارات موسمية، وتظل المدن تدير المطر بلا ذاكرة، وتُشرّع – من حيث لا تدري – للخطر بدل أن تُشرّع للحماية.

وأخيرًا، لم يعد مقبولًا أن تبقى إدارة مياه الأمطار رهينة الحلول الإسعافية التي تتكرّر مع كل عاصفة ثم تُنسى مع أول طالع شمس، فالمطر ليس طارئًا على هذه المدن، بل جزءٌ من تاريخها ومناخها ومستقبلها، وإدارته لم تعد خيارًا تقنيًا مؤجّلًا، بل قرارًا تشريعيًا وسياساتيًا عاجلًا، فالمدن التي تملك الشجاعة لتُبطئ المطر، هي ذاتها المدن القادرة على حماية سكانها، وبناء ذاكرة حضرية لا تمحو دروس الفيضانات مع أول صفاء.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :