فقر مائي أم إداري
د. إبراهيم الخلوف الملكاوي
31-12-2025 10:28 PM
مع كل منخفض جوي، تعود أمطار الخير لتغسل المدن والقرى الأردنية، وتنعش الأرض والذاكرة معا. فالأردنيون، بحكم الجغرافيا والتاريخ، يعرفون قيمة المطر، ويُدركون أن كل قطرة ماء هي نعمة حقيقية في بلد ذي طبيعة شبه جافة. غير أن المفارقة المؤلمة تكمن في أن هذه الأمطار، التي تهطل أحيانا بكميات جيدة، ما تزال تُهدر دون استثمار حقيقي، في وقت يُطلب فيه من المواطن أن يتفهم ضعف التزويد المائي وانقطاعه المتكرر.
لطالما ساد الخطاب الرسمي الذي يصف الأردن بأنه "من أفقر دول العالم مائيًا"، وهو توصيف صحيح من حيث المؤشرات العالمية، لكنه لا يجوز أن يتحول إلى مبرر دائم لغياب الحلول، أو إلى شماعة تُعلّق عليها أوجه القصور في الإدارة والتخطيط. فالفقر المائي لا يعني العجز عن الإدارة، ولا يُبرر عدم إيصال المياه للمواطنين بالكفاءة والعدالة المطلوبة.
السؤال الحقيقي الذي ينبغي طرحه ليس: هل الأردن فقير مائيا؟ بل: هل نحسن إدارة ما يتوفر لدينا من مياه؟ في كل موسم مطري، نشهد كميات كبيرة من مياه الأمطار والسيول تذهب إلى الأودية والبحر دون حصاد أو تخزين، مسببة أضرارا للبنية التحتية وخسائر مادية، بدل أن تكون رافدا إضافيا للمخزون المائي الوطني. ولو تم استثمار هذه المياه عبر مشاريع حصاد مائي مدروسة—كالسدود الصغيرة، والحفائر الترابية، وخزانات التجميع الحضرية، وتغذية المياه الجوفية—لأمكن التخفيف من حدة العجز المائي وتعزيز الأمن المائي المحلي.
المشكلة لا تكمن فقط في قلة الموارد، بل في ضعف الجاهزية المؤسسية لاستقبال المطر والتعامل معه كفرصة لا كحالة طارئة. فحصاد المياه يجب أن يكون سياسة وطنية متكاملة، لا إجراءات موسمية أو تصريحات إعلامية. سياسة تُربط بالتخطيط العمراني، وإدارة البلديات، وتصميم الطرق، وحتى اشتراطات البناء، بحيث تصبح كل قطرة مطر جزءا من منظومة الاستدامة.
إن الاستمرار في ترديد خطاب "الفقر المائي" دون تقديم حلول ملموسة، يُفقد هذا الخطاب مصداقيته لدى المواطن، ويُعمّق فجوة الثقة. فالمواطن لا يطلب المستحيل، بل يطلب إدارة رشيدة، وعدالة في التوزيع، وشفافية في الأرقام، وخططا واضحة تُشعره بأن الدولة تتعامل مع المياه كقضية أمن وطني لا كأزمة مؤجلة.
الأردن لا يملك ترف إهدار المياه، ولا ترف الاكتفاء بوصف المشكلة. أمطار الخير التي تهطل اليوم، إن لم تُستثمر بعقلية التخطيط لا التبرير، ستتحول غدا إلى فرصة ضائعة جديدة. أما إذا أُحسن التعامل معها، فيمكن أن تكون جزءا من الحل، لا مجرد ذكرى موسمية جميلة.
ختامًا، المطلوب ليس إنكار التحدي المائي، بل الانتقال من خطاب الشح إلى ثقافة الحصاد، ومن تبرير الأزمة إلى إدارتها. فالماء في الأردن ليس مجرد مورد طبيعي، بل قضية سيادة واستقرار ومستقبل.