في حاراتنا القديمة التي كانت معتقة بالطيب كان مشهد العزاء يعبق بالألق والسمو في مشاعر الفزعة والنخوة والطيب، فما ان يذيع خبر الوفاة في أي بيت من تلك البيوت حتى تجد كل البيوت تستنفر صوب ساكنيه نساء ورجالا واطفالا، الرجال يهبون لبناء (صيوان) العزاء والأطفال يقومون بجمع كل كراسي بيوت الحارة في هذا (الصيوان)، يجمعهم الجيرة والعيش والملح والحزن والفرح الذي تجده في هذه المناسبة مرسوما ومعلقا على حبل ( لمبات ) الكهرباء الممدود في (صيوان) العزاء، وتجده ذا طعم طيب في الهيل والقهوة السادة التي تصنعها نساء الحارة واللاتي يشاركن رجالهن بمصاب الحارة في (بكارج) القهوة المنتشرة على كل طاولة من طاولات (الصيوان)، والأمر هنا لا يقتصر على مشاركة كل بيت طيني من بيوت الحارة في كرسي او (بكرج ) قهوة أو ( لمبه ) من بيته للعزاء، بل حتى في الدموع التي تسيل من العيون فإن سقطت الدمعة من عين أم حزنا على وفاة زوجها او ابنها تجدها سالت دموعا على خدود نساء الحارة أجمعين، أما الرجال فيتشاركون بأحضانهم ليضموا المكلوم ويمسحون دمعه باطراف كوفياتهم الحمراء والبيضاء، يربتون على كتفه لينفضوا عنه هما وحملا من الحزن لا تحمله الجبال..
رحل نسرنا معاذ (رحمه الله ) بجسده وكانت روحه الطيبة وارواح الراحلين من بيوت الطين القديمة المعتقة بالطيب حاضرة في مشاعر كل الاردنين، فمن (عقربا) إلى (العقبة ) كان (صيوان ) العزاء منصوبا شارك فيه الرجال والأطفال والنساء والبنات ، كراسيه كانت من كل بيت أردني جاءت من كل مدينة وقرية وناحية ومخيم ، هبوا ليمسحوا دموع العم (صافي الكساسبة) بكوفياتهم البيضاء والحمراء ، فكانت (عي) عاصمة الاردن بالحزن والألم والدمع، اما النساء الأردنيات فشاركن أمنا المكلومة (ام معاذ ) بالدموع والدعاء المرفوع للسماء بأن يرحم (معاذ) بكل اللهجات المحكية في المملكة ، لقد سقطت كل المسميات وأصبحن امام (ام معاذ) كلهن ( كركيات ) ، ولم يقتصر هذا الوجدان الشعوري في التوحد حزنا على روح (معاذ )على الدموع التي سالت على الخدود بل كان زادنا وقهوتنا وعجونا وخبزنا يوزع صدقة طيبة عن روح (معاذ ) ، في هذا المصاب الاردني الواحد لم تكن عائلة عمنا ( صافي الكساسبة ) هي ( المجبرة ) بل كل الأردنيين وعلى إختلاف مشاربهم ومنابتهم ( مجبرين ) حالة أليمة من الحزن والوجع وحدنا كأردنيين على (معاذ ) ووحدنا في (صيوان ) واحد أسمه الاردن ...فيا اردنيين ويا وطن (عظم الله اجركم ) ولكن إياكم وإياكم ان تتفرقوا بعد هذا المصاب الجلل فعلموا أبناءكم ان الوطن جامع ونتشارك فيه من الشمال الى الجنوب ويسمو على كل عصبية نتنة قد تظهر في كل مباراة قدم او ( هوشة ) جامعية او كل إنتخابات نيابية او بلدية واعتبروا ذلك صدقة عن روح ( معاذ ) وصدقة جارية لتبقى روح الوطن حية على الدوام ...( رحم الله معاذ وحفظ الله البلاد من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن ) ....