الغيـــرة المـرضيــة بقلم الدكتور فايز أبو حميدان
18-05-2016 01:14 PM
تعتبر الغيرة غريزة بشرية في الإنسان فهي موجودة لدى الرجال والنساء على حد سواء، ويمكننا تعريفها بأنها شعور طبيعي وتقلب عاطفي ناتج عن حب التملك للطرف الآخر والخوف من فقدانه، وذلك سعياً للحفاظ على استقرار العلاقة وتكليلها بالحب والود والاهتمام، فعندما تكون الغيرة ضمن الحدود المعقولة تكون محببة ومقبولة لدى الطرفين، أما في حال وصول الأمر للغيرة المرضية المفرطة فإنها تكون مزعجة للطرف الآخر وليس لها مبرر وربما تقلب العلاقة رأساً على عقب وتحول الحياة إلى مأساة، وأحياناً تكون مصحوبة بالرغبة في إيذاء الشخص الذي يثير الغيرة، وبالتالي قد يصعب على أحد أطراف العلاقة الاستمرار فيها لذا يتوجب هنا السعي لعلاجها مباشرة، فهي تعتبر من الأمراض النفسية المنتشرة والتي تحتاج إلى تدخل علاجي من قبل طبيب نفسي مختص.
وترتبط الغيرة المرضية ارتباط وثيق مع الخوف المرضي، فمن يعاني من الغيرة المرضية غالباً ما يكون مصاباً بالخوف المرضي، حيث يبحث الشخص المصاب دائماً في ايجاد ما يقنعه بصحة او عدم صحة اعتقاداته، فهذا الشخص لديه اعتقادات غير مبنية على أي دليل ولا تتماشى مع المنطق، لذا فهو دائم الانشغال بهذه الأفكار الطاغية والتي تسيطر على تفكيره والتي تفصله عن الحياة، ويبحث في الحيثيات الصغيرة وغير المهمة لإشباع تفكيره بصحة اعتقاداته والتي يتمنى داخلياً عدم صحتها حتى لو أدى ذلك إلى خيبة أمله ويربط الصدف التي قد تحدث باعتقاداته، و يسعى لجمع الأدلة التي تؤيد اعتقاداته وشكوكه لإدانة الطرف الآخر ولإثبات صحة غيرته .
فالغيرة المرضية حالة نفسية صعبة تؤثر على نوعية الحياة وتجعل المصاب بها في حيرة وتناقض دائم يصنعه الانسان بنفسه فيصحبه حالة من الاكتئاب والضيق الشديد، إذ يصبح للأحداث اليومية وغيرها معانٍ أخرى في عقل المريض، ويصبح إنسانا عصبياً فاقد القدرة على التركيز ويشك في كل شيء حوله ويصبح ذو انفعالات قاسية، بل وقد تدفعه أحياناً إلى أن يصبح انساناً عدوانياً ويتصرف بعنف ولا يدرك العواقب التي قد تترتب على ذلك.
فالغيرة كما ذكرنا هي طبيعة إنسانية وحيوانية والقليل منها يعد غيرة فطرية سوية معتدلة والتي تعتبر أمر طبيعي وصحي في العلاقات، أما الافراط فيها فقد يتحول إلى غيرة مرضية قاتلة وشكوك وأوهام تلازم الشخص المصاب بها وتتسبب في هدم العلاقات تدريجياً، كما ان تفاعل الناس مع الغيرة يختلف ويتفاوت من شخص لآخر، فهناك من لا يتفاعل أبداً ولا يعزز هذا الشعور وهذا يعتبر غير صحي، وهناك من يتفاعل بطريقة هستيرية مرضية قد تؤدي إلى عواقب وخيمة جداً للعلاقة مع الحبيب أو الصديق أو شريك الحياة وتدفعه للتصرف بشكل عدواني وسلبي، وهناك من يتفاعل بطريقة عقابية نتائجها سلبية، فالبعض يتعامل بطريقة انتقامية وذلك بالتصرف بنفس طريقة الشريك أو الصديق، ومن الناس من يتفاعل بطريقة تربوية وعقلانية لتصحيح مسار العلاقة وبصبر كبير للحفاظ على استمرارها وانتظار الفرصة المناسبة لتذكير الشريك بحوادث معينة كان تفاعله أكثر عقلانية فيها وخالي من الأنانية والغيرة.
لقد أثبتت دراسات في العلوم النفسية أن 90% من مشاكل الغيرة المرضية ناتجة عن سوء فهم وتحليل خاطئ للأحداث وتفاعل اندفاعي غير مبرر يعكر صفوة العلاقة العاطفية، وكل أساليب المنع والحرمان التي تُفرض تؤدي إلى نتائج سلبية، فالممنوع مرغوب وفضول الإنسان قد يدفعه للخوض في تجربة الممنوع مهما كلف الثمن وخاصة بعد تأنيبه لحادث ما.
فالعلاقة العاطفية بين شخصين لا تعني انهما منفصلين عن الناس فطبيعة عمل كل منهما وعلاقاته المجتمعية تفرض عليه علاقات وتفاعلات يومية مختلفة بل وتعرضه بشكل يومي إلى أحداث متعددة قد تولد روح الغيرة عند الشريك فإذا أراد البعض إيقاف هذا فالأفضل الانزواء في المنزل وعدم التفاعل والتواصل مع المجتمع، فهي لا تقتصر على تدمير الحالة النفسية للمصاب، بل و تدمر أيضاً طبيعة علاقاته الاجتماعية، سواء الزوجية أو الأسرية أو العاطفية أو الصداقة.
كما لوحظ في عدة دراسات وجود فرق في انتشار الغيرة المرضية بين شعوب العالم، فالمجتمعات المنفتحة لا تعاني كثيراً من الغيرة المرضية ونسبة الأشخاص المصابين فيها ضئيلة مقارنةً بالشعوب غير المنفتحة، كما ولوحظ أيضاً وجود تفاوت في الغيرة بين الرجال والنساء ففي المجتمعات الأكثر حضارة نجد بأن الغيرة المرضية لدى السيدات أقل بكثير من المجتمعات الأقل تقدماً.
لا أحد منا يرغب ان يتم تتبع حياته الشخصية حتى من أقرب الناس إليه وان كان ذلك تحت ستار الغيرة وحب التملك، وذلك لأن الافراط في حب التملك يدخل الغيرة في اطار الشك وعدم الثقة، مما يؤدي إلى تفاقم الأمور وبدء تصور السيناريوهات المختلفة وبالتالي يؤدي إلى معركة الاتهامات والصراعات والاستنزاف.
فما العمل إذن ؟؟
إن التفاعل مع الشكوك يجب ان يكون منطقياً والانفتاح في الحديث مع الشريك ضروري ومهم ويجب تعزيز الصراحة والتسامح كأهم عوامل لحل المشاكل الناتجة عن الغيرة المرضية، و الحديث الصادق والشفافية وإغلاق الموضوع بعد اكتمال الوضوح حوله وعدم العودة له في كل مناسبة هو مفتاح الحل، " الاحترام المثالي للآخر هو منحه الثقة " ماتياس كلاوديوس .