عمون - صدر مؤخرا عن دار ثقافة للنشر في أبو ظبي رواية السراب في 384 صفحة، وتعرض الرواية على لسان سيرة بطلها وائل وأسرته مسارا من الشك والفوضى الذي اجتاح جيلا من الشباب في الخمسينات جعل الجيل التالي يمضي في مسارات مختلفة ومتعددة كما يبدو من الرواية بعرض مسار أبناء وائل، الذين يمضي أحدهم مع القاعدة، والآخر يتزوج من إسرائيلية وينخرط في مشروعات السلام بين العرب والإسرائيليين، ثم يعودون من جديد فيتجمعون في تشكيل محير، وائل الأخ المسلم وزوجته الأمريكية ميرا، وصديقته اليهودية الإسرائيلية أوريت، وابنه سالم الذي كان في أفغانستان حتى أحداث الحادي عشر من أيلول، وكريم الذي تزوج ابنة أوريت، فالأسرة تحولت إلى مزيج من المسلمين واليهود المسيحيين، والإخوان المسلمين والليبراليين والقاعدة، والعرب والإسرائيليين، مزيج يصفه كريم في فصل (رؤيا) أحلامه كانت مزيجا من السراب والغبار والفوضى، سراب الحلم والفكرة والضوء الذي يتبعه حتى شعر بيأس من ملاحقته، وغبار التجارب والأحداث والأعمال، والفوضى المستمدة من الزمن والشك ومحاولة التفسير والتشكيل، أو هي القانون الموجود بالفعل ولكنا نجهله، إنها فوضى بالنسبة لنا، وليس بالنسبة للحقيقة، فهي ما نجهله وما نحاول معرفته، كل قانون ينظم الظواهر ولا نعرفه هو فوضى في نظرنا، الطقس على سبيل المثال.

الرواية لا تبدو سردا منطقيا متسلسلا من الأحداث، ولكنها تداعيات يستحضرها وائل بعد الستين وهو جالس يتذكر، ثم يشاركه الرواية أصدقاؤه والمؤلف نفسه يدخل نفسه جزءا من الرواية، وأوريت صديقته في أثناء الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة، والتي أصبحت فيما بعد عضوا في الكنيست الإسرائيلي، وزوجته الأمريكية "ميرا" ثم أبناؤهما، سالم الذي سافر إلى أفغانستان، وكريم الذي تزوج من دالية ابنة اوريت وانخرطا في مشروعات للسلام والعمل في مجال حقوق الإنسان، ويارا التي سلكت وزوجها في مسار مختلف في العمل في مجال البيئة، لتقول في الفصل الخاص بها إنها ليست جزءا من الرواية.

عندما بلغ وائل الستين كانت الألفية الثانية توشك على الانقضاء اعتقد أنه بلغ مرحلة من العمر والتجربة والعلم تمكنه أن يسجل تجربته ومشاهداته في جماعة الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية بعامة، ولكنه وجد أن حصيلة نصف قرن لا يمكن استيعابها بالعلم والتوثيق، وإنما بالجهل، .. الجهل المتحصل من المعرفة، أو معرفة ما نجهل، ففي الطب والعلم نبحث دائما عما نجهله وليس عما نعرفه، وهكذا فإنه بعد عشر سنوات من الكتابة والاستماع والتذكر والبحث المتواصل وجد أنه بحاجة حتى يقدم التجربة ويفهمها إلى الجهل.

وفي تشكل وائل ورحلته الشخصية كانت ملحمة تلتقي بمسار الحركة الإسلامية، وتبتعد عنها في مسارات ومشاهد درامية مؤثرة، كيف وجد نفسه شريكا للإخوان المسلمين وجماعات التطرف والعنف واليساريين، ثم أدخله أبناؤه في مصاهرات وشراكات من نوع جديد مع الأمريكان والإسرائيليين والقاعدة أيضا.

ففي دراسته وممارسته وتدريسه للطب حول العالم تعرف في مصر على أيمن الظواهري وعبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان، وعايش أيضا نشوء جماعة التكفير والهجرة بقيادة شكري مصطفى، وفي دراسته وعمله في الجامعة الأمريكية في بيروت تعرف على زميلته ثم رفيقة حياته "ميرا" الطالبة ثم الطبيبة الأمريكية.

وفي مصر السبعينات عايش إعادة تشكيل الإخوان المسلمين في مصر وتشكيل الجماعات المتشددة، وتحولات الإخوان المسلمين في الأردن، وحوارات وأنشطة وبرامج الإخوان المسلمين في الأردن ومصر الخليج وفي الولايات المتحدة وأوروبا، .. والمد الإسلامي والديني الجديد وموجات التدين الجديدة في العالم الإسلامي وفي وسط المسلمين في أنحاء العالم.

تخرج وائل من كلية الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1966، وعمل لمدة سنة في الأردن، ثم سافر إلى الولايات المتحدة لإكمال دراسته في الطب، وتعرف في أثناء ذلك على الحركة الإسلامية في الغرب والنشاطات والمراكز الإسلامية والعمل الإسلامي المتبادل بين الشرق والغرب، وتزوج من زميلته في والدراسة والتدريس "ميرا" ورزقا بثلاثة أبناء، سالم وكريم ويارا.

وفي منتصف الثمانينات سافر وائل إلى باكستان ليعمل طبيبا في مستشفى الهلال الأحمر الكويتي، وتعرف في هذه الأثناء على الحالة في أفغانستان والتشكيلات الإسلامية الأفغانية والعربية الوافدة.

تحول القضية الأفغانية في مسرحها "العربي والإسلامي" إلى مشهد كبير، جرت فيه كثير من التفاعلات والتداعيات التي ما زالت تتواصل، وعايشها وائل عبر تجربته العملية كطبيب، وفي مشاركته ومعايشته السياسية والعامة للعمل الإسلامي في مجال القضية الأفغانية وتداخلاته وعلاقاته العالمية أيضا.

فقد وفد إلى أفغانستان آلاف الشباب من العرب والمسلمين ليشاركوا في العمل في المؤسسات والمكاتب المتخصصة بخدمة القضية الأفغانية في مجالات الإغاثة والتعليم والإعلام، وفي القتال مع المجاهدين الأفغان، وكانت باكستان ثم أفغانستان هدفا للعمل والزيارات لكثير من قادة الحركة الإسلامية في جميع أنحاء العالم والقادة السياسيين والأمنيين أيضا في كثير من الدول، بالإضافة إلى المنظمات الدولية المعروفة.

والحركة الإسلامية الأفغانية نفسها شهدت تطورات واسعة، فقد انقسمت إلى حركات عدة، ونجحت في قيادة جزء كبير من الشعب الأفغاني بمساعدة دولية وإسلامية في علميات عسكرية واسعة انتهت بإسقاط النظام الشيوعي الحاكم في أفغانستان، لكنها دخلت في نزاع وقتال داخلي له أبعاد إقليمية وقبلية وعرقية إثنية.

وفي أوائل التسعينات وقع الغزو العراقي للكويت، وبدأت مرحلة جديدة في المشهد العالمي وفي الحركة الإسلامية أيضا، فقد رافق هذا الغزو تفكك المعسكر الشيوعي وانهيار سور برلين، وسقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية ثم انهيار الاتحاد السوفيتي، واستقلال الجمهوريات الإسلامية التي كانت جزءا من منظومة الاتحاد السوفيتي، طاجكستان وأوزبكستان وكازاخستان، وقيرغيزيا، وتركمنستان.

ألقت حالة حرب الخليج وانهيار المعسكر الشيوعي بظلالها على المشهد الإسلامي، وبخاصة في أفغانستان، وكان وائل قد وصل إلى مرحلة وقناعات جديدة، فعاد إلى الأردن الذي كان قد شهد قبل عام واحد (1989) تحولات ديمقراطية واسعة حملت الحركة الإسلامية إلى واجهة المشهد السياسي، وعمل طبيبا في عيادته الخاصة وفي أحد المستشفيات في عمان، وتواصلت علاقته أيضا بمنظمة الصحة العالمية ومنظمة "أطباء بلا حدود" ومنحته تجربته الطبية الواسعة في أفغانستان تجارب عمل جديدة طبية وإسلامية أيضا، فشارك وزوجته في العمل الطبي في فلسطين، وسهل لهما جواز سفرهما الأمريكي حرية العمل والحركة بين عمان والقدس، ثم انتقل في أواخر التسعينات إلى الخليج للعمل طبيبا في أحد المستشفيات التخصصية.

وتعرف في هذه الأثناء على مجريات التطور الإسلامي في الأردن واليمن والجزائر، وتطورات الانتفاضة في فلسطين وصعود حركة حماس إلى المشهد السياسي الفلسطيني والأردني أيضا.

بدأت الحركة الإسلامية مشاركة سياسية واسعة في الأردن واليمن وتركيا، وفي السودان الذي شهد انقلابا عسكريا نفذته الجبهة الإسلامية، وتدور أحداث سياسية واسعة متعلقة بالحركة الإسلامية أيضا، فقد تحول السودان إلى مركز للحركات الإسلامية المعتدلة منها والمتطرفة.

وشهدت التسعينات أيضا صعود حزب الله الذي قاد مقاومة وطنية للاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وجرت انتخابات بلدية ونيابية في الجزائر حصلت فيها الحركة الإسلامية على أغلبية كبرى، ولكن الجيش تدخل وسيطر على الحكم والدولة، ودخلت البلاد في مواجهة عسكرية ودامية لمدة لا تقل عن عشر سنوات.

ويتداخل المشهد الفلسطيني واللبناني عند إبعاد أربعمئة ناشط وقائد من حماس والجهاد عام 1993إلى مرج الزهور في جنوب لبنان، ويسافر وائل إلى لبنان لزيارة المبعدين مع الصليب الأحمر، ويطلع على المشهد الإسلامي اللبناني وتطورات المشهد الفلسطيني.

وتدور في أثناء التسعينات أيضا أحداث عنف محدودة في الأردن تنفذها مجموعات من الشباب بعضهم عاد من أفغانستان، ومن هذه المجموعات جيش محمد والأفغان الأردنيون.

في عام 1995 يعلن عن اكتشاف حركة "بيعة الإمام" بقيادة أبو محمد المقدسي وأبو مصعب الزرقاوي، وتتطور هذه المجموعة في السجين بين عامي 1995 وعام 1999 لتتحول إلى جماعة متطرفة ومنظمة نجحت في تجنيد عدد من الشباب وبخاصة من نزلاء السجون في قضايا جنائية غير إسلامية، وبعد إطلاق سراح هذه الجماعات في عفو عام صدر عام 1999 يسافر أبو مصعب إلى أفغانستان، ثم ينتقل بعد أحداث 11 أيلول إلى شمال العراق ويشارك مع منظمة أنصار الإسلام الكردية، ويشكل مجموعات عربية وأردنية جديدة تتخذ من العراق مقرا لها، ثم يصبح لهذه المجموعات دور بارز بعد الحرب الأمريكية على العراق عام 2003، ومع الانتفاضة الثانية ينتقل وائل للعمل في الخليج، ويبدأ بالدخول في مرحلة فلسفية جديدة.

وفي الوقت نفسه فإن أبناءه الثلاثة يسلكون وجهات ثلاث متعددة ومعقدة أيضا، سالم صار طبيبا، وسافر مرة أخرى إلى أفغانستان، ويتعرف عليه أحمد الجواهري صديق والده، ويشارك ويعيش أحداث وتطورات المشهد الثاني بدءا بصعود طالبان إلى المشهد السياسي الأفغاني واستيلائها على الحكم، ثم انتقال أسامة بن لادن وأيمن الظواهري معهما المئات من أتباعهما من السودان إلى أفغانستان، والإعلان عن المنظمة الإسلامية العالمية لمواجهة الصليبية والعالمية عام 1998 بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وتنفذ القاعدة مجموعة من العمليات العسكرية ضد الولايات المتحدة أهمها تفجير السفارات الأمريكية في أفغانستان ومدمرة عسكرية أمريكية في اليمن، ثم تتوج هذه الأحداث بتفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 2001 لتبدأ مرحلة جديدة.

و"كريم" المحامي يتجه في مسار مختلف، أحب فتاة إسرائيلية تعرف عليها في أثناء دراسته الجامعية في الولايات المتحدة، ويعملان معا في برامج السلام والتعاون بين الفلسطينيين والإسرائيليين ومنظمات حقوق الإنسان.

و"يارا" تسير في وجهة معتدلة وسطية، تخرجت من كلية الفنون الجميلة، وتقرر العيش والعمل في الأردن، وتجد رسالتها في العمل في مجال البيئة.

في الخليج في أثناء عمله طبيبا يعالج وائل كثيرا من ضحايا العمليات الإرهابية، فقد تحول عبر عمله الطويل في الحروب إلى متخصص متقدم في معالجة حوادث الحرب، وتتيح له الإقامة هناك فرصا للتأمل والمراجعة والراحة النفسية الطويلة، وفي رحلاته وزياراته للمسجد الحرام في مكة، أو في الجلوس بجانب البحر الذي تطل عليه الدارة الصغيرة التي يقيم فيها، ويعكف على الكتابة والمراجعة والأسئلة الجديدة، ولكنه قبل أن يتم عمله ينتقل للعمل في العراق مع الصليب الأحمر ويشهد كثيرا من حوادث العنف والدمار في العراق، ثم يعود إلى عمان ونراه مرة أخرى وهو يعالج ضحايا تفجيرات الفنادق في عمان.

ويضيف سالم وكريم ويارا مشاهد وأحداثا جديدة أكثر تعقيدا وتداخلا، تطورات العنف بدءا بتفجير السفارات الأمريكية ثم الحادي عشر من أيلول ومعركة أفغانستان وتورا بورا، ولكن سالم يواجه الإحباط والفشل والسؤال الملح الموجع، فيعود إلى عمان ليشارك والده عيادته.
ويارا تمنح للعمل الإسلامي والعام مجالات وأبعادا ومفاهيم جديدة ومختلفة عن كل رحلة والدها، ففي مواجهة الفقر والتلوث والتصحر تنشأ مداخل جديدة للإصلاح والتنمية مختلفة كثيرا عن خطابات الأحزاب والجماعات السياسية الإسلامية وغيرها.

وكريم وزوجته الإسرائيلية يواصلان العمل في مجال حقوق الإنسان، ولكنهما مع تواصل العنف والتمييز يعودان إلى الولايات المتحدة ويواصلان رسالتهما من هناك، وكانت زوجة كريم هي ابنة "أوريت" عضو الكنيست الإسرائيلي، وإحدى قادة حزب العمل الإسرائيلي، وصديقة وائل منذ أواخر الستينات عندما كانا يدرسان معا في الولايات المتحدة، كانت صداقة يصعب تصنيفها، فقد كانا يلتقيان ويتزاوران يوميا، وبرغم أن ميرا لاحظت العلاقة الخاصة والمميزة بينهما، فقد تجاهلت الأمر، وكأنها لا تعلم شيئا، أو كأن الأمر لا يعنيها، ولكنها سألت وائل بعد سنوات طويلة: هل تحبها؟

- هي صديقة عزيزة، وتملك قدرا عظيما من الحكمة والبصيرة.
- هي كما تصفها لأنك تراها كذلك، ربما لا يراها زوجها سوى ربة بيت، ولا يضيف إليها عنده شيء شهادتها الجامعية العليا، ولا حتى عضويتها في الكنيست.
- على أية حال، فقد تزوجت ومضت بعيدا، وربما لن نلتقي أبدا.
- لا، إنها حاضرة وشريكة في كل ما تكتب وتتذكر وتفكر فيه.

ربما لم يلاحظ وائل في نفسه ما لاحظته ميرا، ولكن بعد سنوات عندما تزوج ابنهما كريم من داليا ابنة أوريت اعترف أنها محقة، وتعرف كثيرا مما كان يظن أن أحدا غيره لا يعرفه.
هل كان زواج كريم وداليا مصادفة؟ هل تتبعا على نحو غريزي وراثي خطا أسلافهما، هل تلقيا على نحو ما رسالة عبر لغة منسية أو غير واعية بوضوح؟

ربما يكون التاريخ هو ما كتب وليس ما حدث بالفعل، ولكن وائل وجد رأي ميرا زوجته التي طوال أربعين سنة أمضياها لم تقرأ شيئا مما كتبه، أو هي تتظاهر بذلك، لكنها لم تقل يوما رأيها في شيء كتبه أكثر صوابا، ونزولا عند رأيها استحضر تاريخا شفويا وذكريات لجماعة الإخوان المسلمين، إنها ليست عالما صنعه كاتب روائي، فالأمم والجماعات والأماكن هي روايات وحكايات وذكريات، ...

- ربما لم أكن أحبك يا دكتور، لكنك لم تتح لي الفرصة لكي أكرهك، لقد بنينا هذه الجماعة عندما كنت تنعم في أمريكا، حتى عندما كنت تشاركنا في العمل كنت تكتم عجرفة لا تخفى علينا، تستكثر علينا أن نقود الجماعة، نحن لم نحرز القيادة بانقلاب، ولكن أصدقاءك تخلوا عن الجماعة واختفوا، كانت لحظة تضحية قطفنا ثمارها، سيظل أصدقاؤك يتذكرون أننا متمردون، ولكن انظر إلى تلك الجموع في دبين، إنهم يعرفوننا نحن، ولا يعرفون أحدا من أصدقائك.

- لا أكرهك، وإن كنت لم تعطني فرصة كي أحبك، يقول وائل، لا أدري إن كانوا أصدقائي من تصفهم كذلك، كنا أصدقاء في الستينات، وفي السبعينات كان عبد الله عزام وأحمد الأزايدة من أصدقائي، وأيمن الظواهري وأسامة بن لادن كانا صديقين في الثمانينات، لدي أصدقاء كثيرون في الإخوان المسلمين وأعتز بصداقتهم، ولكنهم ليسوا هنا في الأردن، فحين تتجول في العالم مثلي، في الخليج وباكستان وأفغانستان والولايات المتحدة وأوروبا تجد العالم فسيحا، وتكبر بمقدار ما تعتقد أن العالم كبير، ولكن حدثني بما أنك ضيفي اليوم، إنني مستمع إليك،...