من الجدارية إلى التجريد: مسار فني في أعمال عماد المقداد
19-12-2025 01:47 AM
كتبه الفنان الأديب: خالد الخالدي
يُشكّل الفن التشكيلي مساحةً حيوية للتعبير والبحث، تتحوّل فيها التجربة الحياتية إلى رؤية بصرية تتقاطع فيها الفكرة مع اللون والخط. ومن هذا المنطلق تأتي تجربة الفنان عماد المقداد بوصفها مسارًا إبداعيًا قائمًا على التطور والتحوّل والأسئلة الجمالية المستمرة.
فقد استطاع الفنان عماد المقداد تطوير نفسه وأسلوب اشتغاله الفني من خلال البحث والتحرّي، حيث طبّق في أعماله نظرية الأعمدة الستة التي ألّف بها كتابًا خاصًا. فقد بدأ تجربته برسم الجداريات ضمن إطار الواقعية التقليدية، لكنه عندما اعتمد هذه النظرية، انتقل إلى فضاءات أكثر اتساعًا، فأتقن الاشتغال في المجالات الانطباعية والتعبيرية والرمزية، وصولًا إلى عالم التجريد، بحرفية عالية ودقة في الأداء.
وقد استعان الفنان في هذا التحوّل بكل ما راكمه من تجارب شخصية ومشاركات في معارض جماعية متعددة، مغترفًا من بحر غني بالأشكال والألوان، وهي عناصر أساسية تغذّي اللوحة التجريدية من جهة، وتمنحها من جهة أخرى عنصر التوليف بين عالم الفنان الداخلي ومكوّناته البصرية. الأمر الذي جعل أعماله الإبداعية تتسم بالتلقائية، وبعلاقة متوازنة بين المادة والفضاء، إلى جانب حضور الرموز الإيحائية والعلامات الأيقونية الدالة على مجموعة من الأفكار والرسائل التي يسعى الفنان إلى إيصالها.
لقد استطاع عماد المقداد، من خلال إنجازه لأعمال تختلف في سماتها وموضوعاتها وأشكالها وتوليفاتها، أن يحقق مبتغاه الفني بعيدًا عن الاعتماد على الألوان الجاهزة التي تتطلب عمليات مزج تقليدية للوصول إلى اللون المرغوب. بل اعتمد تقنية خاصة وظّف من خلالها الخامات المتاحة، والألوان التي صنعها بيديه، مستخدمًا إياها في الظلال والخلفيات وكامل فضاءات اللوحة، ما منح أعماله خصوصية تقنية وجمالية واضحة.
وعلى الرغم من تنوّع الموضوعات التي اشتغل عليها، يمكن القول إن مجال رسم الجداريات شكّل أحد أبرز محطات تميّزه، حيث استطاع أن يرسّخ فيه بصمته الخاصة. ومن خلال سنوات معرفتي بتجربة الفنان عماد المقداد، لمستُ بوضوح حالة التجدد المستمر في أعماله، وانتقاله الواعي من الواقعية إلى التجريد، وهو انتقال لم يكن شكليًا بقدر ما كان نتيجة طبيعية لهمّ إنساني وفكري عميق يحمله كسائر الفنانين.
فقد عانى الفنان عماد المقداد لسنوات طويلة من الغربة عن وطنه، إذ قضى أكثر من نصف حياته بين الغربة واللجوء، واستطاع أن يُجسّد هذه المعاناة في لوحاته، تاركًا فيها مساحات من الغموض المقصود، ورسائل بصرية تتيح للمتلقي تأمّلها وقراءتها بوضوح. كما أسقط في أعماله الأخيرة الضوء على الأفكار الرجعية في بعض المجتمعات، محاولًا تفكيكها بصريًا، إلى جانب توثيقه للثورة السورية، وما عاناه السوريون من ألم وتشريد.
وبذلك يمكن القول إن المنتج البصري للفنان عماد المقداد يختزل حالة مدهشة من البحث والتجريب التقني والتوليفي، معتمدًا على الهوية العربية السورية الشعبية، التي تعكس خصوصية المكان والزمان، ومدى انتمائه لثقافته البصرية، فضلًا عن اطلاعاته الواسعة على التجارب الفنية الحديثة. وكأن أعماله توثّق جانبًا من الحياة اليومية، مركّزة على الإنسان، ومشاغله، وهمومه، وتضحياته، ضمن رؤية فنية متوازنة تمنح العمل التشكيلي بعده الإنساني العميق.