ثقافة ترشيد الاستهلاك .. أ. د. محمد طالب عبيدات
21-10-2009 07:19 PM
كنتيجة حتمية للارتفاع الجنوني لحمى الأسعار عالميا ومحليا والذي طال معظم السلع الغذائية والاستهلاكية، حتى أصبح يشكل ظاهرة عالمية يعاني منها معظم دول العالم لكنها أشد وطأة على الدول النامية والفقيرة منها، في خضم ذلك غدا من الضروري انتهاج ثقافة مجتمعية أساسها تنظيم الاستهلاك الفردي والأسري. ولا يتحقق ذلك الجهد التشاركي بين أفراد المجتمع كافة إلا من خلال الإلمام والوعي العام بأهداف الدولة وسياستها الاقتصادية، كما يتوقف على نوعية المعلومات والعادات والاتجاهات المتأصلة لدى المجتمع، والتربية السليمة التي تتطلب إكساب الشباب حقائق وقيم ومهارات واتجاهات معينة مكتسبة، منها الاتجاه نحو ترشيد الاستهلاك وضبط الإنفاق وعدم الإسراف والتبذير.
ولقد أشار جلالة الملك المعزز عبدالله الثاني بن الحسين المعظم مرارا إلى أن التحدي الأول الذي يواجه الأردن هو زيادة الأسعار فالأسعار فالأسعار، وكررها ثلاث مرات كمؤشر على أهمية الموضوع. وكذلك ركّزت الحكومة في الآونة الأخيرة على الموضوع من خلال ضبط انفاق المؤسسات المستقلة. ومن هنا فلا بد من إيجاد الآليات والوسائل والسبل الكفيلة لكبح جماح هذا التحدي. وأعتقد جازما بأن أفراد المجتمع كافة يعول عليهم الكثير في هذا المجال وخصوصا بما يهمّ موضوع ترشيد الاستهلاك.
والحديث عن ترشيد الاستهلاك لا يعني بأي حال من الأحوال البخل أو شح الإنفاق لكنه تماما يعني إدارة الموارد والمال بقدر ووسطية تامة دون الإسراف من جهة ودون التقتير من جهة أخرى. وكثيرا ما يقال بأن إسراف الشباب بالذات سببه أنهم يحصلون على المال من أهلهم ولا يتعبون فيه ولا يشعرون بقيمته، وهذا صحيح لأن الشباب بحاجة ماسة لثقافة العمل المنتج ليشعروا بقيمة المادة والتعب والسهر والكد للحصول عليها وتقدير قيمة العمل والذي يؤدي حتما إلى الترشيد في المصروف والإنفاق ليكتمل طرفي المعادلة: العمل والإنفاق باتزان تام. وثقافة العمل المنتج يجب أن يتعلم عليها ويمارسها الشباب منذ الصغر –حتى وان كانوا ليسوا بحاجة، ولو للتدرب وتقدير العمال- لتصب في مصلحة المجتمع من حيث تضييق نسب الإعالة والتي هي مرتفعة في المجتمع. إذ أنه ليس من المعقول أن يبقى رب الأسرة هو المعيل الوحيد لأسرة يربو عدد أفرادها عن ستة أو سبعة!
إن زيادة الدخل القومي ودخل الأسرة يتطلب من الشباب المساهمة وبهمة عالية في زيادة الإنتاجية والعمل الدؤوب للمساهمة في توفير متطلباتهم الشخصية على الأقل. والنماذج كثيرة في معظم بلدان العالم والتي يمكن من خلالها الاطلاع على تجارب الغير في هذا المجال وهي جل ناجحة وان كان لها بعض الآثار السلبية التي لا داعي لذكرها هنا. فما المانع من أن يعمل الشاب الجامعي ليحصل على مصروفه اليومي أو أن يدفع رسومه أو حتى يساعد والديه لتخفيف من غليان الأسعار ووضعهم المادي. كل ذلك ممكن إذا ما توفرت العزيمة وإدارة الوقت، فالدراسة والعمل ممكنان معا، والعمل أكثر من مرة وفي أكثر من مكان ممكن أيضا، وغيرها من الأفكار. وهنالك العديد من قصص النجاح لبعض الشباب في الأردن سواء في الجامعات أو غيرها ممن يعملون ويدرسون ويواءموا بسهولة بين العمل والدراسة وحياتهم ناجحة جدا.
وعودة إلى ترشيد الاستهلاك، ولربما نلحظ أن أهم قطاعين اقتصاديين يحتاجان لذلك في هذا الزمان هما الطاقة والمياه، حيث معدل مصروف الأسرة الأردنية فيهما يتجاوز 20% إلى 25% من الدخل الشهري للأسرة . والأمثلة التي تضبط الإنفاق وترشده كثيرة، ومنها على سبيل المثال الاقتصاد في الإنفاق والاستغلال الأمثل للطاقة والمياه والحد من عمليات الهدر في مختلف السلع والخدمات الاستهلاكية والتي لا تستخدم على الأغلب بصورة مثلى ويذهب بعضها إلى حاويات القمامة أو إنارة المصابيح للهواء، واستخدام وسائل النقل العام بدلا من التاكسي، وترشيد ثقافة الهمبرجر والوجبات السريعة والثقافة الاستهلاكية، وعدم التجمل في الخلويات واللباس والدخان وغيرها. وخلاصة القول هنا أننا نريد شبابا يصرف من إنتاجيته ويكرم منها ويقتصد لنفسه، لا شبابا يصرف من مال غيره أو يقتر على حساب غيره، وهذا طبعا يتطلب تغيير الكثير من السلوكيات والثقافات في بيئتنا ومجتمعنا للتكيف مع بيئة ارتفاع الأسعار المطردة.
وندرك أن ثقافة ترشيد الاستهلاك تتطلب رؤية تشاركية وتتطلب تظافر الجهود كافة لمشاركة الفرد والأسرة والمدرسة والجامعة ومؤسسات الدولة المختلفة ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية والقطاع الخاص، وهذا يعزز مبدأ تظافر الجهود وتراكمية الانجاز. ولربما ندرك أيضا بأن دور الشباب والأسرة هو الأكبر من بين هذه المؤسسات والتي تعتبر القدوة وبوابة العبور الأهم للمجتمع والدولة والطريق الأسهل للممارسة وخلق ثقافة ترشيد الاستهلاك. ولعل وجود القدوة السليمة في الأسرة يساعد على سرعة التعلم وغرس العادات والقيم والاتجاهات الصحيحة نحو الاستهلاك والتركيز على المفاهيم الخاصة بترشيد الاستهلاك.
كما أن توفير الفرصة المناسبة للشباب منذ الصغر للمشاركة في عمليات الاختيار والشراء والعمل تنمي فيه أو فيها القدرة على حسن الاختيار، مع تعويد الشباب على الاقتصاد والتوفير وتقليل الفاقد في كل نواحي الحياة الاستهلاكية، خاصة أن الشاب فرد في أسرة، مستهلك للغذاء والملابس والطاقة والمياه والمصروف وممتلكات الأسرة من أجهزة وأدوات وغيرها. حيث أن النمط السلوك الاستهلاكي لدى الفرد يتأصل لديه منذ الصغر، ويتأثر بالعديد من العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية من مثل: التقليد، والمحاكاة، والإعلانات التجارية والدخل النقدي ووسائل الإعلام المختلفة. فلا يمكن إهمال تأثير التلفزيون والإعلانات على أنماط استهلاك الأفراد، وكثيراً ما تؤثر الدعايات على أنماط الاستهلاك، وتزيد من الشراء العشوائي لدى كثير من الأفراد والهوس التسوقي لدى الشابات خاصة. ولعل وجود القدوة الصالحة في مجال الأنماط الاستهلاكية الرشيد، وضرورة مشاركة الوالدين للشباب في عمليات الشراء، وتعويد الشباب على التوفير، وإعطاء الشباب مصروفاً محدداً ليتعودوا على التأقلم معه، ومساهمة وسائل الإعلام والإعلان في توعية الأفراد بأهمية النقود والقيمة الشرائية والسلوك الاستهلاكي المتزن، وتوجيه برامج إعلامية لتوعية الشباب بأهمية وكيفية ترشيد استهلاكهم، لعلها تساهم في تربية الشباب على السلوك الاستهلاكي السليم.
ولربما أيضا نلحظ جميعا تأثر النمط الاستهلاكي عند الشباب بثورة الاتصال وتكنولوجيا المعلومات حيث أنتشر نتيجة ذلك أنماط استهلاكية جديدة كخطوط الانترنت المنزلية واللاسلكية وأجهزة الهواتف المحمولة الحديثة ووجود أكثر من خط عند الشباب، واستخدام المياه المفلترة وغيرها، مما يزيد من المصروف اليومي لدى الشباب، ونحن هنا وضعنا أنفسنا بين مطرقة مواكبة التكنولوجيا الحديثة وإضافاتها اليومية الجميلة والمبدعة وسندان ضبط الإنفاق وترشيد الاستهلاك. ولهذا فان ترتيب أولوياتنا في المصروف وتخفيف الضغط والإقبال على الكماليات تحتم علينا التأني وعدم الإسراع في التبديل شبه الشهري للخلويات والحواسيب وغيرها مواكبة للتكنولوجيا. فما المانع من أن يبقى جهاز الخلوي أو الحاسوب عند الشاب لفترة سنة أو سنتين أو خمسة! أليس هذا باب كبير للإسراف!
إننا ندعو الشباب الجامعي وأساتذتهم الكرام، وكذلك طلاب المدارس ومدرسيهم، والجهات العاملة مع الشباب إلى الاهتمام في مواضيع ترشيد الاستهلاك وضبط الإنفاق، ولربما يتم ذلك من خلال برامج توعوية أو إرشادية للشباب في مجال ترشيد الاستهلاك وتغيير النمط الاستهلاكي، إضافة إلى أجراء البحوث المهتمة في إيجاد مصادر بديلة للطاقة ويتبناها الشباب، وعمل برامج شبابية تركز على الترشيد. وأعتقد جازما بأننا أصبحنا جميعا بحاجة ماسة إلى رؤية جديدة وآليات جديدة تواءم بين الدخل ومتطلبات الحياة اليومية، ويدخل في هذا البعد وبتكاملية علوم الاقتصاد والاجتماع والسياسة والبحث العلمي والقضايا الشبابية وغيرها!
* جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
e-mail: mobaidat@just.edu.jo