في الذكرى السّابعة لرحيل أبي عطيّة الحوراني
د. هيا الحوراني
30-11-2021 12:08 AM
اليومَ بعد سنواتٍ سبع أحملُكَ في صحوِ عينيّ، وفي خفقان القلبِ، وكلُّنا يكادُ "يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا"...
أحتاجُك اليومَ أن تُمسِك بيدي لكي يتبدَّدَ الخوف. أناجيكَ ليلاً "وسواليف الليل تِشْتِكي من دونك". أحتاجك جدّاً وأقولُ مجدّداً: وأودّ لو تصحو قليلاً يا أبي، ولو مرّة في السنة.
أبي،
لقد عَلِقْتُ بين حَجَرَي الرّحى، والطّاحنونَ كُثْر، لأنّهم ضاقوا بابنتك الّتي رأوكَ فيها، فسوّلَتْ لهم أنفسُهم ما سوَّلت. لا تقلق عليّ يا أبي: لقد سلكتُ طريقَك في رفضِ الظّلم، وانتصرتُ بعد أن انكسرت. انتصرتُ بعد أن جئتَني حُلُماً، كنتَ فيه "أبا زيد" المهيبَ، واسطَ بيتٍ يضرِبُ في الأرضِ ثباتاً. أمسكتَ يدي لكنّك لم تقلْ شيئاً. صَحَوتُ وسمعتُ صوتَك البدويّ الصّافيَ الأصيلَ يناديني: "يا صاحِبِيْ دَرْب العُلا عَسِرْ بالحِيلْ."
تماسَكتُ رغمَ كلّ ما جرى. لم أَكُن وحدي يا أبي؛ فأمّي كما عهدتَها نخلةٌ باسقة تُساقط علينا وعلى قلبي –الذي يبحث عنك- رُطباً جَنيّا، وأخي محمود الّذي ترك "جاكيته" في قبرك يَومَ دَفنِكَ خشيةً عليكَ من البرد لفَّني بيديه ودفّأني بدمعة رأيتُها في عينيه لكنَّه قاوم كثيراً كي لا تنزلَ فتحرَقَني، وأخي قصيّ يضمني دوماً إلى قلبه وأسمع صوتَك في كلماته حين يقول: "ولا يهمِّك يَخَيْتِي"، وما تزال بقيّتُكَ الصّالحة من أهداب العين تُحيطُني بحبٍّ صافٍ علّمتَني ألّا أُفرّطَ فيه أبداً.
حذّرتني من رفاق السوء وكنتَ تقول: "الصّاحبْ ساحِبْ". وفي عزّ ظمئي وقلّة حيلتي سحبتني بلقيس إلى أعالي مَعْشَرِها وروحها الّتي تشبهني كثيراً وأبَتْ أن "تخلع صاحبها"، وَرَوتْني حين امتزجتْ دموعنا وجفّفْناها بيدٍ واحدة، واستنطَقَتْ خَرَسَ الطُّرُقات ومن عليها، ورافقَنا ليذكِّرَنا بنا بيتُ أبي الطيّب: "وإنّي لَمِن قومٍ كأنَّ نفوسَهم ... بِها أنَفٌ أن تَسكُنَ اللّحمَ والعَظما" . ليتكما التقيتما يا أبي.
صحيحٌ أنّ "الدّنيا آخِر وقْت" كما كنتَ تقولُ دائما، لكنّني "بنت أبوها" الّتي تعرف: أسيرُ في الدّربِ دون تراجع. على أنّني سأبقى أردّدُ تحسُّرَك على غياب ذوي المُروءة والطِّيب:
"لا يا خَسَارة يا ابِنْ شَعْلان .... لْحُودَ القَبْرِ يْضُمِّنَّكْ". وجاء زمن يا أبي: "لا ياَ خسارَة يا ابِنْ حوران"، أو كما يقول أبو الطّيّب:
"ما كُنتُ أحسَبُ قبل دفنِكَ في الثّرى ... أنّ الكواكِبَ في التّرابِ تَغورُ".
أبي، "يابا"،
ما زلتُ أنتظرُك بين موسمين: حصادِ القمح، وقطف الزّيتون. وحين أدركُ أنّك مِتَّ، أُدرِكُ أنّك أنت القمح وزيتوني المباركُ كُلُّه. أُدرِكُ فأزورُ قبرَك، وأبكي بصوتٍ عالٍ، والقلبُ يصرخُ بأمنياتِ ذلك البدويّ: "يا ليت أَبي يِفتَحْ عُيونُه إذا جِيت ... ويشُوف مِنْ غِيبِتَه وِش جَرى بي"....
أبي،
إنّ أعظمَ مجدٍ كان لي أنّك أبي، لكنّ المجدَ وحدَهُ لا يَروي، فأنا اشتقتُ إليك، وأحتاجُكَ، وفي الاشتياق مسافات قاحلةٌ من الاستحالة ولو طَوَيتُ الدّنيا سعْياً إليك. اشتقتُ إليك، إلى صوتِكَ الهادر يملأ البيت، يُهلّي بي حين أُقبِل، ويرحّبُ بالضّيوف عندما ينادون: أبو زيد! فتقول: "يا هلا، فوت جاي... هات القهوة يا حاتم...".
تخنقني عَبرةٌ حَرّى وهم ينادونَ على أحفادكَ أبناء بلال وأحمد مِمّن تَسَمّوا باسمك وأقرؤه على كتبهم ودفاترهم: عطيّة الحوراني. أصطحبهم إلى قبرك: "وين رايحين يا عمتو"؟ "على جدّو". أقرأُ أنا الفاتحة، ويحملون الكعك – في دمهِم من دمِكَ كرمٌ وسخاء – يوزّعونه على من حولنا فرحين كما كُنتَ تَفرَحُ يا أبي.
أبي،
سَبعٌ مَضَينَ،
"وليستْ عشيَّاتُ الحِمى برواجعٍ"...
سبعٌ مَضَينَ،
"لا تحسَبوا البُعدَ يُغيّرُ العهدا"...
سبعٌ مَضَينَ،
"ضلالٌ... أنا لا يموتُ أبي".