أنا والموناليزا .. د. هند أبو الشعر
21-07-2010 07:23 AM
عندما وقفت أمام الخريطة التوضيحية في متحف اللوفر بباريس ، كان هاجسي الأكبر أن أبحث عن موقع القاعة التي تتوسطها لوحة الموناليزا ، لا انكر انه سبق لي وأن تأملت وجهها مئات المرات وقرأت عنها الكثير الكثير ، ولا أنكر أنني اندهش دائماً من المقدرة الفنية الفائقة لدافنشي على استحضار الحزن الداخلي الجميل لهذه السيدة ، ولا اتصور أن هذه اللحظة التي رصدتها عبقرية دافنشي لحظة عابرة ، انها من لحظات الروح التي لا تقدر ريشة عادية على استحضارها أو تجسيدها بالخط واللون على القماش ، ولم ادهش طوال تنقلي في اللوفر من اللوحات المتتالية التي تقود الزائر إلى الموناليزا ، لذا فقد تزايدت سرعتي وأنا اتبع السهم ، وتأكدت مرات من وجود الكاميرا في يدي ، وتمنيت لو أن معي كاميرا متطورة ترصد هذا الحدث بدقة تقنية فائقة ، أصل إلى القاعة وأراها من البعيد ، اتطلع إلى جمهرة الزائرين الذين وقفوا متراصين أمام اللوحة الزجاجية التي يفصلها عنهم حاجز كبير يبعدهم عن مدى اللوحة ، كان المنظر يبعث الهيبة في النفس ، ولأن القاعة واسعة والزوار كثر ، فقد استغرقني الوصول إلى جمهرة زوار الموناليزا وقتاً اعتقدت انه أطول بكثير من العادة ، صحيح انني وسعت مدى خطواتي لأقف في حضرة الموناليزا ، وصحيح انني وجدت لي موقعاً مناسباً لاتملى من مشاهدتها ، لكنني فوجئت بالمشاعر التي سكنتني فجأة،،.
كانت الموناليزا بعيدة عنا ، تحيطها الحواجز الزجاجية والمسافة وحاجز الحبال الجميلة ، صارت نظرتها الغامضة الحزينة المحاطة بكل هذه المسافات ، نظرة فوقية ، وصار حزنها الجميل فردياً ، لم احرك الكاميرا ، وأحسست بأن الزجاج الذي يحصنها يقتل الجمال ويجعل كل ما هو حولها باردا ومعزولا. تزايد الجمع الذي ظل يتوافد ويقف أمامها عشرات وعشرات الكاميرات التي تتنافس على التقاط صور الموناليزا التي ظلت بعيدة وجامدة ومعزولة ، بدأت أحس بالاكتفاء ، كنت اظنني سأتسمر أمام هذا العمل الفني المدهش ، وأرابط أمامها واتملى من اللحظة الروحية الحميمة التي جسدها دافنشي بروحه وفنه وتدفق احاسيسه ومقدرته التقنية المذهلة ، كنت أظنني سأنسى الكنوز الأخرى التي تحيطها ، وأراهن على أنني سأعود إلى اللوفر مرات لأتوقف عند الموناليزا ، لكنني انسحبت بهدوء ولم اعاود التطلع مع جمهرة الزوار الذين أصروا على التقاط مئات الصور للموناليزا القابعة خلف الحاجز ، ووجدتني أمام (جويا) الفنان الاسباني الرائع الذي صور ملامحنا نحن.
الملامح الاندلسية المليئة بحيوية الشمس والنور والضوء وقوة اللون وسطوة المشاعر المباشرة ، جذبتني صورة السيدة الأندلسية الجميلة المعروضة في القاعة غير بعيد عن الموناليزا ، كان الزوار يمرون بها مرورا عاديا وكان شعرها الأسود اللامع يجتذب ضوء الريشة التي أبدع جويا استخدامها بجرأة واضحة ، كانت عيون السيدة مليئة بالمشاعر متدفقة بالاحاسيس ، قريبة من الروح والمشاعر والقلب والعين ، لم تفصلني عنها مسافة زجاجية أو حواجز ، وقفت وحدي طويلاً ، وأحسستها تبتسم لي ، استعدت في ذاكرتي أعمال (جويا) العظيمة ، واستمتعت بالقرب المكاني والروحي ، ولم اعاود الالتفات حيث تنعزل السيدة الموناليزا بفوقية جامدة،.
ماذا اريد أن أقول..؟ لا شيء ، فقط اريد أن اعبر عن كرهي للفوقية والاحساس بالذات ، وعن استنكاري لتضخيم الاعلام للشخصيات ، وأريد أن اعبر عن حبي للشخصيات الحميمة القريبة من الناس ، وأقول بأن حزن الموناليزا بارد وفردي ، وبأنني أفضل ألف مرة أن اتطلع بعيون (امرأة غورانية) حزينة ، وجهها بلون تراب الوطن ، وشفاهها مشققة من الجفاف وشعرها أشعث ، لأن حزنها نبيل وقريب من الروح وبلا حواجز ولا حرس ولا أضواء. والسلام،.
الدستور