حِجَجٌ مضت .. وعلى عهدك يا أبي
د. هيا الحوراني
30-11-2023 10:25 AM
في ذكرى الرّحيل التّاسعة
"إي وحَياتَك"... أجْزِمُ أنّك كنتَ ستقولُها وأنتَ تسمعُ "أبو عبيدة" يقولُ للأنذال: "لقد أعذرَ مَنْ أنذر"، فأنتَ تُقدِّرُ الأحرار، وتنتفضُ كرامةً لهم.
وكنتَ بلا شكّ ستعيدُ لنا بكلِّ ما عهدناه فيك مِن عزٍّ وكبرياء قصةَ جنودِ الصهاينةِ الجبناء مُكبّلين على أيدي الجنودِ المخلصينَ أبناءِ الأرض من الأردن وفلسطين وحرّاسِها الأمينينَ في معركةِ الكرامة، مقيَّدينَ بالجنازيرِ في الدّبابات، والبشرى لك يا أبي إنّهم اليومَ جثثٌ داخلَ تلكَ الدّباباتِ وعلى جَنَباتِ الطَّريقِ مرّةً أخرى على أيدي أبناءِ الأرض، وعلى مرأى صامتٍ من السّادة والمسؤولين.
سألني أحدُهم: أِنتِ بنت أبو زيد.. وحرّكَ في النّفسِ ما لمْ أكنْ أنوي تحريكَه هذا العام؛ فالحدثُ جللٌ يخجلُ معَهُ المرءُ مِنَ الحديثِ عنْ حزنٍ خاصّ،، عنْ حزنٍ يقابلُهُ غضبٌ وتضحياتٌ جِسام. والحديثُ اليومَ لمنْ يحملونَ أرواحَهم على كفوفِهم فداءً للوطن يسيرون بعزمٍ وثبات.
لنْ أرثيكَ اليومَ يا أبي؛ فمثلُك حيٌّ ذِكْرُه باسقٌ كالنّخيل، وإنّك حيٌّ،، وقد رافقْتَني بلْ رافقْتُكَ في دروبٍ كثيرة، وأسيرُ فيها اليومَ وحدي وصدى الذّكْرى يحيطُني بأمانٍ لم يكنْ إلاّ معك. وإنَّكَ حيٌّ،، وما يتدفّقُ في شراييني منْ دمِكَ الزّكيِّ يمنحُني حياةً أنتَ صاحبُها.
لن أرثيكَ اليومَ يا أبي؛ بلْ سأتذكّرُ ما كنتَ تردِّدُهُ عند شكوانا من صعوباتِ الحياةِ وتقول: "يا صاحبي درب العلا عَسِرْ بالحيل"، والدّربُ دونك يَصْعبُ ويعسر، وأنا ومعي هذه المرة محبوبتك زين "أم عبدالله"، و"الشيخ أحمد" لسانه يلهَجُ بالحقّ، ومحمود "الصّلْب الذي لا يلين"، وقصيّ "البشير" نسيرُ على نهجِكَ في رفضِ الظُّلمِ والوقوفِ بوجه أصحابِهِ، نمارسُ ما ورثناه منكَ منْ حرِّيَتِنا المسؤولة التي يهونُ عندَها كلُّ شيءٍ يمَسُّ قيمَ الكرامةِ والكبرياءِ والحقِّ والضّمير، ونُواجَه بما تَعرفُه بحكْمتِكَ وخبرتِكَ بالناس.
يقرأونَ صحائفَنا ولا يعلمون أنّنا:
وليسَ لنا عيْبٌ سوى أنّ جودَنا
أضرَّ بنا، والبأسَ منْ كلٍّ جانبِ
أبــونا أبٌ لــو كـانَ للنَّاسِ كـلِّهم
أبٌ مثلُهُ أغنـــاهُمُ بالمناقبِ
يقرأونَ صحائفَنا ويتغافلونَ عنْ أنّها كُتبتْ بالكدِّ والجهدِ والتّعب، فيها عرقُ جبينِ أبي الطّاهر، وفيها صوتُه يلازمُني وقدْ كانَ يكرِّرُ دائمًا: من لم يصُنْ نفسَه لم ينفعْهُ علمُه، وفيها دعواتُ أمّي ودموعُها الغزيرة في الفرح قبلَ الحزن. فيُغرقونَ في الظُّلْم ونُغْرِقُ نحنُ في الصَّبْر؛ لأنّا نسيرُ على وصيّتِكَ الدائمةِ لنا يا أبي: "الصّبر زين وفيه مقضاة حاجتين: تكسب جميل وتاخذ الحق وافي".
عاد الشّتاءُ يا أبي وفيه بردٌ لم أشعرْ به إلاّ بغيابك، وأنت تحبُّ الصّيْف.. كيف لي أنْ أنسى دعاءك بدوام الصّيف؛ كي لا تُداهمَ الأمطارُ بيتَ "أم فارس" الأرضيّ، ولأنّ "أم محمد" أو "أم عوض" كما كنتَ تحبُّ أنْ تناديها "ما إلها حيلة عالسّقعة"، ولأنّ مدلّلتُك "هيا" تحبُّ العنب.. ولا عنبَ في الشّتاء.
يبحثُ الأحفادُ عنْ "جدّو"، والأعمام والعمّات يطيلونَ الحديثَ عنك، ونبحثُ نحنُ عنْكَ يا أبي؛ فقد أضعنا بغيابك ما لا سبيلَ إليه إلاّ حضورُك، وأنا في الصّباحات وفي الليالي الحالكات أقول:
أبي: ما زلتَ في منزلِنا
ماثلاً لم ننسَ حتى نذكرَكْ
طفلُكَ المتعبُ مشتاقٌ فمَنْ
يا أبي عنْ موعدي قدْ أخّرك؟؟