ثورة السعادين * راكان المجالي
28-04-2011 02:02 PM
لاول مرة في تجربتي الطويلة في الكتابة تستعصي علي كتابة مقال فكرته حاضرة وواضحة جدا في تفكيري، فمنذ ثلاثة اشهر ومع تباشير الفرح التي بدأت بانتصار الثورة التونسية لاح فجر عربي جديد ومختلف وولادة حقيقية للانسان العربي حاولت كتابة مقال عن ثورة السعادين مرات عديدة ومزقت ما كتبت مرات اخرى الى ان وصلت لمقال اليوم.
الفكرة كما ذكرت كانت واضحة عندي وعنوان المقال كان جاهزا وهو "ثورة السعادين" فانا منذ اكثر من ثلاثة عقود كتبت مؤكدا ان معظم الانظمة العربية قد حولت الانسان العربي الى قرد عبر درجة الاستكانة والذل وترقيص هذا الانسان السعدان على ايقاع مزامير ودفوف الحاكم حيث تحول هذا الانسان الى قرد يحركه صاحبه للقيام بالاعيب بهلوانية.
ولقد انطبعت صورة ترقيص القرد وحفرت في دماغي الطفولي المبكر، حيث كانت مجموعة من النور تجول في القرى وتزور قريتنا وتقدم بعض الشعوذات والبهلوانات ومنها تخصص احدهم واسمه ابو ناعسة باصدار اشارات لقرد مدرب يصطحبه للقيام بحركات مضحكة ومنها على ما اذكر انه كان يعطيه قبعة يضعها القرد احيانا على رأسه وينقلها ليضعها على قفاه، وهي حركة اظن ان المواطن العربي ظل يستخدمها في تعامله الظاهري والباطني مع السلطة.
وقد امضيت عمري مسكونا بصورة قرد ابوناعسة وكان هذا القرد فيما بعد هو انا وقد حاولت التمرد وزيادة وعيي وثقافتي لكنني شأن الانسان العربي في كل مكان لم اكن اكثر من ذلك القرد.
لقد كان معروفا ومألوفا ان القرد تطور ليصبح انسانا حسب نظرية النشوء والتطور والارتقاء، لكن الغريب هو تحويل الانسان الى قرد كما اشرنا وهو ضد الطبيعة وارادة الخالق ايضا وهو ما لا يمكن ان يستمر ومن هنا معجزة استعادة الانسان العربي لانسانيته، اما الجدل حول نظرية داروين عن القرد والانسان والجدل حولها تتلخص بما يلي:
- الأول: انتشار الادعاء القائل بأن الإنسان انحدر من القرد (وهو الادعاء الذي لم ينكره داروين في كتابه أصل الأنواع)...
- والثاني: بسبب موقف الكنيسة المعادي له خشية استبدال فكرة التطور بوجود خالق ومبدع للحياة (وهو الموقف الذي استنسخناه بحذافيره دون الانتباه الى إمكانية دخول فكرة التطور ضمن المشيئة الإلهية)...
وأنا شخصياً أعتقد أن المشكلة في "نظرية داروين" لا تكمن في مسألتي التطور أو طريقة انبثاق الحياة ذاتها (كون حدوثهما لايخرج عن ارادة الخالق عز وجل) بل في استغلالهما كبديل لوجود الخالق المصور وادعاء ظهور الحياة بطريقة ذاتية وصدفة اعتباطية !
... أيضا من المغالطات التي أحاطت بنظرية داروين اعتبارها فكرة خاصة بتشارلز داروين نفسه، وعدم تواجدها أو التطرق إليها قبل ظهورها في كتابه (أصل الأنواع) عام 1859...
فأفكار داروين كانت موجودة قبله (كفلسفة في الخلق) في الثقافات الهندية واليونانية والفارسية بل وحتى العربية .. كما نوقشت (كفرضية علمية) في أوروبا أيام داروين ذاته - خصوصا من قبل عالم الأحياء الفرنسي "لامارك" والانجليزي "والاس" الذي أرسل مسودة أعماله لداروين لتقييمها دون أن يعلم انتهاءه من العمل عليها !!
...أما المدهش فعلا فهو أن ابن خلدون سبق داروين منذ خمسة قرون في الحديث عن تطورالمخلوقات وتشعبها - بل وحتى احتمال وجود علاقة بين الانسان والقردة.. فقد قال مثلا في أول فصل من مقدمته المعروفة: "... واعلم أرشدنا الله وإياك أن هذا العالم بما فيه من مخلوقات على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات ... وعالم التكوين ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان بحيث يتصل آخر أفق المعادن بأول أفق النبات ويتصل آخر أفق النبات بأول أفق الحيوان ... ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد لأن يصير أول أفق للذي بعده... واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه حتى انتهى إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولكنه لم ينته إلى الروية والفكر أول أفق الإنسان من بعده..." (انتهى بتصرف) !!
وكما يقول زميلنا فهد الاحمدي الذي يناقش هذا الموضوع فان كثيرين من المفكرين الفلاسفة والعلماء العرب الاخرين سبقوا داروين.
وما نتمناه هو ان يبرز علماء يفسرون لنا الظاهرة العكسية في مسخ الانسان العربي وتحويله لعقود الى سعدان هذا الانسان الذي بدأت سلسلة انتصاراته باستعادة انسانيته ونعود الى ريادة الفكر العربي السباقة لداروين فبالاضافة الى ابن خلدون فهناك مثلًا ابن الطفيل الذي عبر عن آرائه من خلال قصة أعطاها عنوانا ذا دلالة خاصة (حي بن يقظان) .. ففي هذه القصة يذكر ابن طفيل كيف تخلّق (حي) في بركة طين لزجة حيث تشكلت أعضاؤه أولا من فقاعات طينية مختلفة ثم تجمعت في النهاية إنسانا كاملا ...
ويقول في مطلع حكايته: "... إن بطناً من الأرض تخمرت فيه الطينة على مر السنين والأعوام حتى امتزج فيها الحار بالبارد والرطب باليابس وحدث فيها تكافؤ وتعادل في القوى (وهو مايشير الى حدوث تفاعل كيميائي) وظهر في الوسط لزوجة بجسم لطيف في غاية الاعتدال (أشار إليها لاحقا باسم الروح) فتعلق به عنده (أي ارتبط بهيئة كإنسان) ..."
أما إخوان الصفا (وهم جماعة شبه سرية من الفلاسفة المسلمين في القرن الرابع الهجري) فتحدثوا عن تشكّل الكواكب وتخلّق الكائنات وتطور الانسان في رسائل دعيت "تحفة إخوان الصفا"...
فعن خلق الكواكب يقولون: "... ثم تستقر الأجسام على الشكل الكري (الكروي) الذي هو أفضل الأشكال فكان منه عالم الأفلاك والكواكب... ولما ترتبت هذه الأكر (الأجسام) كما أراد باريها دارت الأفلاك بأبراجها وكواكبها... ثم تركبت (أو تخلقت) على طول الزمان أنواع التراكيب (أو الخلائق) فالنبات أشرف تركيبا من المعادن والحيوان أشرف تركيبا من النبات والإنسان أشرف تركيبا من جميع الحيوان..."
وسياق التركيبات هذه (التي تشكلت على طول الزمان) توحي بوجود سلسلة تطورية بدأت من المعادن فالنباتات فالحيوان ثم الانسان الذي أصبح أشرف تركيباً من جميع الحيوان !!
أما ابن سينا فيقول في كتاب الإشارات والتنبيهات :
" ... وما يحدث في عالمنا, إنما ينتج عنه بمعاضدة الأفلاك ... وما يبقى في الأرض ووجد امتزاجا تحصل منه المعادن، وإن وجد امتزاجا أكثر يحدث النبات، وإن وجد امتزاجا أعلى يحصل منه الحيوان، وإن وجد امتزاجا أحسن وأعدل يحدث منه الإنسان ..."
ولاحظ هنا استعماله كلمة "امتزاج" كمرادف ل"تفاعل كيميائي" يحصل بين عناصر الأرض فينتج منه الكائنات الحية حتى إن وجد امتزاجا أحسن وأعدل يحدث منه الإنسان!!
... باختصار ؛ يمكن القول إن انبثاق الخلق وتقسيم الكائنات إلى مراتب (يتصل آخر مرتبة بأول مرتبة تالية كما شرح ابن خلدون) كانت فكرة مقبولة وسائدة ووردت أيضا في كتاب القزويني (عجائب المخلوقات) وكتاب الجاحظ (الحيوان) وابن مسكويه في (تهذيب الأخلاق) ناهيك عن رسائل إخوان الصفا التي ظهرت بين 334 و 373 هجرية...!!