المدينة الفاضلة .. مثالية أم شمولية؟
د. أحمد فايز العجارمة
29-10-2024 10:42 PM
انتهينا في المقال السابق أن الفلسفة السياسية قد تفرعت إلى تيارين كبيرين تيار الواقعية وتمثله فسلفة أرسطو السياسية، وتيار المثالية وتمثله فلسفة أفلاطون. وقد خبا تيار الفلسفة السياسية الواقعية بعد أرسطو لأزيد من ألف عام، وتفردت فلسفة أفلاطون وتياره المثالي ساحة الفكر السياسي في الفلسفة طوال فترة العصور القديمة والوسيطة.
لم تخرج الفلسفة السياسية في العصر الوسيط عن عباءة الأفلاطونية، يستوي في ذلك فلاسفة المسيحية والإسلام على حد سواء، ويعد الفارابي (872-950م) أبرز ممثلي هذا التيار إذ بنى فلسفته السياسية على مثال من فلسفة أفلاطون، وشيد مدينته الفاضلة على طراز يوتوبيا أفلاطون المثالية، وقد فصل الفارابي في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) صفات هذه المدينة، إذ جعلها تشبه المجتمع المثالي الذي يتعاون فيه الناس ويؤدي كل فرد فيه دوراً بناءً لخدمة الآخرين، ويشبه في صفاته جسم الإنسان، حيث يقوم كل عضو فيه بوظائفه الخاصة لضمان الصحة العامة.
أما قائد هذا المجتمع الفاضل أو (حاكم المدينة الفاضلة) فيجب أن يتمتع بخصائص فكرية وأخلاقية عالية؛ إذ يجب أن يجمع بين الحكمة والفهم الدقيق للواقع والشجاعة والاعتدال. يُشَبِّه الفارابي هذا القائد بالفيلسوف، أو "الحاكم الفيلسوف"، الذي يمتلك العلم الشامل والقدرة على توجيه الناس نحو الخير العام، ويرى الفارابي أن القائد يجب أن يتصف بصفات نفسية وجسدية وعقلية عالية، مثل الحكمة والعدالة والقدرة على اتخاذ قرارات صائبة.
وبذلك يكون الفارابي قد شيد فلسفته السياسية متأثراً بشدة بأفلاطون، وخاصة في تصوره للمدينة الفاضلة، ويمكن رؤية التشابه بين المدينة الفاضلة عند الفارابي وجمهورية أفلاطون من حيث تقسيم الأدوار الاجتماعية والهرم القيادي الذي يضع الفيلسوف على رأس الحكم.
ولعلنا لا نتجنى على الفيلسوفين الكبيرين أفلاطون والفارابي إذ نقول أن فلسفتهما السياسية المثالية، على مثاليتها البراقة إلا أنهما يكرسان نظام حكم شمولي، يتدخل مباشرة في خيارات الفرد واسلوب حياته، ويفرضان عليه كل شيء كيف يعمل وبماذا يفكر وما هو دوره المحدد سلفاً وفق نظام طبقي صارم يعمل كل فرد فيه ما يفترض به (من قبل الدولة) أن يقوم به تماماً كما يعمل أعضاء الجسم دون زيادة أو نقصان أو حتى مجال للتغيير أو التفكير، فالحكام فيلسوف متروك له مهمة التفكير في الخير العام، والجندي حارس يحمي المدينة الفاضلة، والعامل والفلاح يعملون لبناء الدولة، وكل ميسر لما خلق له، لا يطمح أي منهم ليكون مكان الآخر وإلا اختل نظام المدينة.
وهذا لعمري بالضبط ما تفعله أنظمة الحكم الشمولية التي تمارس الوصاية غير الشرعية على الفرد في تحديد مناحي حياته وطموحاته، مع فارق مهم هو أن مدينة أفلاطون والفارابي الفاضلة يوجد على رأسها حاكم فيلسوف. مستبد صحيح لكنه مستنير، ينشد الخير العام والصالح العام، بينما أنظمة الحكم الشمولية في الواقع تكرس كل السلطة وكل الثروة بيد أقلية حاكمة، بينما يقبع حكماؤها وفلاسفتها ومفكريها في مجاهل الغياب والتغييب وهجرة العقول، أو في غياهب السجون والمعتقلات.