ما زلنا نتذكر كلمات جداتنا وكبار السن عن أيام أجدادهم وبركة من سبقوهم، بينما كنا نشق طريق المستقبل التي لم تكن كما ينبغي في مرات كثيرة، وصار لزاما أن نتقدم كأشخاص في مسارات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وما زال لدينا كم كبير من الصور التي تراكمت في الذاكرة الجمعية التي وضعتنا أمام ما يحدث خلال السنوات العشرين الأخيرة، حين تحرك مركز القيم باتجاهات غير أخلاقية بما يتعلق في الصدق والأمانة والعادات اليومية التي لم تعد متعلقة بصحتنا، أو بما يخص قيم المجتمع التي ارتكزت على موروثنا الحضاري والإنساني والديني.
فقبل الثورة الرقمية شهدت منطقتنا مخاض التحول بأبشع أشكاله، إذ لعب الاستعمار والاحتلال الصهيوني دورا ظلاميا في هذا التحول، حين انتقل يهود العالم إلى فلسطين منذ بواكير القرن الماضي، ونقلوا معهم عادات وتقاليد غربية وبائية وظفتها كعناصر تخريبية تنخر في صلب المجتمع العربي، وزجت به في رحلة التغريب التي غدت سببًا غير أخلاقي في قبول هذا الورم الخبيث الذي دخل في مجتمعنا الشرقي ليكون مستوطنا خبيثًا أيضا وجسرًا للغربي الذي عاد من استعمار المنطقة إلى سائح فيها، وأخذت تزداد الممتلكات وأرصدتنا في البنوك على حساب القيم، ويزداد معدل أعمارنا نتيجة الاهتمام المبالغ فيه بالصحة على حساب الدخل للأفراد والبلدان، وتعمل شركات الأدوية وبعض منظومات التسويق على اختراع الكثير من الأوبئة لغايات الحصول على المال بالاتفاق في بعض الأحيان مع الشركات العابرة للقارات التي تتحكم في الدول، وتخضع الكثير من الحكومات لصندوق النقد الدولي الذي لا يستبعد أن يكون متواطئًا مع الكثير من الشركات العملاقة.
وعلى ذكر الشركات صار علينا أن نتعاطى مع التكنولوجيا الحديثة ومخرجاتها، من مثل السيارات التقليدية والهجينة والكهربائية، وربما الشمسية في غضون السنوات القادمة، وهذا يجعل المنزل الذي يخلو من سيارة يواجه الكثير من التبعات الاقتصادية والاجتماعية، فالتنقل صار يستلزم سيارة لتلبية احتياجات الأفراد اليومية. فبدون سيارة، قد يواجه الشخص صعوبات كبيرة في التنقل للوصول إلى العمل، أو توفير مستلزمات الأسرة، أو حتى المشاركة في الفعاليات الاجتماعية، مما يؤدي إلى زيادة التكاليف والاعتماد على بدائل أقل كفاءة، وتكاد وسائط النقل العام تختفي لصالح وسائل النقل الخاصة المملوكة للأشخاص مما يجعل الدخل الفردي يتآكل، وقس عليه ما تتابع من مستجدات وأدوات.
فقد شهد آباءنا حياة تقشفية مقبولة قبل خمسين سنة، بما يصعب على أبناءنا أن يتعاطوه خلال هذه السنوات؛ إذ زادت ممتلكاتنا على حساب القيم، وزاد انشغالنا على حساب راحتنا وصحتنا لمضاعفة الدخل والترف الذي كان يحصل عليه مواطنو الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينات وحفنة من السنوات بعدها، ولكن كان بمقدورهم أن يخوضوا غمار الحياة بكرامة وإباء، وكان لديهم وقت للفرح وقضاء أوقات ممتعة تعج بتفاصيل الحياة، وكانت أراضيهم تمتلئ بالخيرات، وكان لديهم متسع للجلوس إلى أصدقاءهم وإلى عائلاتهم يتجاذبون أطراف الحديث، ويتبادلون الخبرات حيث يتعلم الصغار من الكبار صناعة الحياة.
واليوم ما عاد هناك متسع مع أن معدل العمرقد ارتفع، ومع أن هناك زيادة في المال والرزق وقلة في العيال، أخذت على عاتقها ضيق في الوقت وفي المكان، وفي البيوت توالى إلى ضيق في الصدور ونفور بين النفوس، مع أنك تجد أن كل شيء صار أنيقا وجميلا؛ إلا أن هذه الأرائك الوثيرة تنتظر ضيوفا لا يأتون إلا قليلا، ولم يكن لأجدادنا مثل هذه الأشياء ولكن بيوتهم كانت تعج بالناس، وبالحياة وتعج بالرزق والبركة.
كانوا ينامون باكرًا ويصحون مبكرين، كانت دواوينهم تبدأ مع خيوط الفجر، وقهوتهم كانت عطر
المودة بينهم. ونسهر الآن متاخرين ونصحو متأخرين، تقل بركة العمر والحياة، ويعلوا جبهاتنا غضب
بلا سبب، وتوتر لا لزوم له، والابتسامة باتت عصية وكأننا ندفع ثمنها من حسابنا البنكي، ولم تعد
هذه الجلسات العائلية إلا في مناسبات الأعياد والأعراس، وأصبحت وفاة جديدة ملتقى للمغتربين على غمار الحياة للحديث.
الأعمار بيد الله نعم، ولكن بركتها تقل مع هذا التحضر الذي يستوجب أن تفصل شبكة النت في البيت حتى تنادي أفراد العائلة لوجبة الطعام التي تم إلغاؤها في الكثير من البيوت، وصارت الأم تسمع بعامل الديلفري يأتي بوجبة أبناءها المنشغلون في غرفهم مع أجهزتهم وعوالمهم الخاصة.