حين يبكي الوطن وتنزف القلوب
يحيى الحموري
17-01-2025 10:31 PM
ستنتهي الحرب، وستصمت البنادق، وسيصافح القادة أيديهم ملوّثين بدماء الأبرياء، ستُعقد المؤتمرات وتُوزَّع الابتسامات الزائفة أمام الكاميرات، وسيُقال: “لقد حققنا السلام.” لكن… ماذا عن تلك العجوز التي ما زالت تنظر إلى باب منزلها كل صباح، تنتظر ولدها الذي ودّعته وهو يهتف: “سأعود يا أمي!” ولم يعد؟ ماذا عن تلك الفتاة التي وضعت حُلماً وردياً على رأسها يوم زفافها، فوجدت نفسها تُزفّ إلى ليلٍ طويل من الانتظار والفقد؟ وماذا عن أولئك الأطفال الذين يُطفئون شموع أعياد ميلادهم كل عام، يتمنون أمنية واحدة: “أن يعود أبي.”
لا أعلم من باع الوطن، لكنني رأيت بأم عيني من دفع الثمن. رأيت الدماء تسيل كالنهر، تغسل حجارة الطرقات. رأيت الأمهات يندبن أبناءهن تحت أطلال المنازل المهدّمة، ورأيت طفلاً صغيراً يجلس على الركام، يمسك بدميته الممزقة، ويسأل السماء: “أين ذهب الجميع؟”
رأيت وطناً يبكي. رأيت وطناً يُباع ويُشترى كسلعةٍ رخيصة على موائد المفاوضات، وأرواحاً تُختزل في أرقامٍ باردة تُذيعها نشرات الأخبار. رأيت إنسانيةً تئنّ تحت وطأة الجشع والخيانة، ودموعاً تفيض من أعينٍ لم تجف يوماً.
يا من تقرأ كلماتي، أستحلفك بكل دمعة سقطت على خدّ أمٍ مفجوعة، وبكل نَفَسٍ احتُبِس في صدر طفلٍ تحت الأنقاض، وبكل قلبٍ انفطر حزناً على حبيبٍ غائب. أستحلفك بصرخات الثكالى، وبدماء الشهداء، وبصبر الأرامل والأيتام، أن تنظر إلى هذا العالم بعينٍ تبصر الحقيقة، بعينٍ ترى أن الألم الذي يعيشه هؤلاء ليس مجرد كلمات على الورق، بل هو حياةٌ تُزهَق وأحلامٌ تُوأد.
هذا العالم الذي يُقال عنه “متقدّم”، ترك الإنسانية في الظل. ترك الأرواح تُباع وتُشترى، وترك القلوب تتكسّر بلا اكتراث. لقد كُسرت المرآة التي كنا نرى فيها وجوهنا، ولم يعد أمامنا سوى شظايا تعكس صور الحزن والبؤس.
أيها الإنسان، إن كنتَ ما زلتَ إنساناً، ابكِ على وطنٍ صار قبراً لأبنائه. ابكِ على أمٍّ تنتظر، على فتاةٍ تحلم، على طفلٍ يسأل، وعلى أمةٍ تنزف. ابكِ حتى تتطهّر الأرض من الدماء، وحتى تُشرق شمسٌ لا تُحجبها غيومُ الظلم. ابكِ، فالبكاء أحياناً هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا نُدرك أننا ما زلنا أحياء.