البحث عن الحقيقة.. ليس شعاراً يُرفع في المحافل.. ولا ادّعاءً يجمّل الصورة.. بل اختبار قاسٍ.. لا ينجح فيه إلا أصحاب النوايا الصادقة.. فالمخلص في بحثه.. لا يبالي بمن قال الحقيقة.. ولا أين وجدها.. ولا يرتعد خوفاً.. إن اكتشف أنه كان مخطئاً.. بل يكون أول من يعتذر.. وأسرع من يُصلح.. لأن الحقيقة عنده مقدسة.. لا تخضع لمقايضة.. ولا تحتمل المراوغة..
لكن حين نطالع الواقع.. ونتأمل ما يجري في وسائل التواصل الاجتماعي.. تنكشف لنا معادن الناس بلا أقنعة.. فتجد من يدّعي الموضوعية والحياد.. لكنه لا ينقل إلا ما يتماشى مع هواه.. حتى لو كان كذباً صريحاً.. أو تزييفاً فجاً.. وعندما يُثبت له بالدليل القاطع.. أنه وقع في الخطأ.. لا يملك شجاعة الاعتراف.. ولا حتى يكلّف نفسه عناء حذف ما نشره.. وكأن الحقيقة عنده وجهة نظر تُصاغ حسب الرغبة والمصلحة..
والمفارقة الأكبر.. أن هؤلاء لا يقفون عند هذا الحد.. بل تراهم يصمّون آذانهم.. ويتعامون عن أي حقيقة تصدر عن شخص.. يخالفهم في الموقف.. أو التوجّه.. وكأنها لم تُقال أصلاً.. لكن.. إن جاء ذات الكلام ممن يوافقهم.. سارعوا لنشره.. والتغني به.. وكأنه وحيٌ لا يأتيه الباطل.. فهل هؤلاء باحثون عن الحقيقة فعلًا؟!.. أم مجرد مروّجين انتقائيين.. لا يرون إلا ما يعزز قناعاتهم؟!..
هذا ليس حال البسطاء.. الذين يخدَعهم الإعلام والتلاعب بالكلمات.. بل حال من يقدّمون أنفسهم كحملة فكر.. وأصحاب رأي.. أولئك الذين يتحدثون ليل نهار عن الحق والخير للوطن.. والدفاع عن المقيقة.. والبحث عنها.. بينما هم في الحقيقة.. مجرد باعة مواقف.. يتلوّنون حسب المصلحة.. ويُزيّفون الحقائق كما يشاؤون.. فإن وافقهم الكذب.. روجوه.. وإن خالفهم الصدق.. طمسوه..
الباحث الصادق عن الحقيقة.. هو من يجعلها فوق أي ولاء.. أو هوى.. من يملك شجاعة الاعتراف.. إن كان مخطئاً.. ويقبل الحق.. حتى لو جاءه من خصمه اللدود.. ويرفض الباطل.. حتى لو نطق به أقرب الناس إليه.. أما من يظنون أن الحقيقة سلعة تُباع وتُشترى.. فهؤلاء لن يعرفوا يوماً معنى النزاهة.. وستظل الحقيقة أكبر منهم.. تقف شامخة أمام أعينهم.. وإن أنكروها..
وما زالت الحقيقة ثابتة.. لا يُغيّرها صخب المزايدين.. ولا ألاعيب الانتهازيين.. وستبقى تفضحهم.. مهما حاولوا التلاعب بها.. وما دامت الحقيقة ثابتة.. فلن يسقط أمامها.. إلا من أراد التلون والتزييف..
فهلّا وقفت أمام المرآة.. في لحظة حقيقة.. ونظرت في عينيك.. هل تجد أنك.. باحثٌ عن الحقيقةِ والموضوعية.. حقاً؟!..