حين تتحول العشائرية إلى أداة للمزايدات!
محمود الدباس - أبو الليث
01-03-2025 10:07 AM
منذ أن تشكلت الدولة الأردنية.. كانت العشائر عمادها المتين.. وسندها الصادق.. فلم يكن على هذه الأرض.. مَن خرج من العدم.. أو ظهر كالفطر دون جذور.. كل من وُجد هنا.. هو ابن عشيرة.. سواء أكانت من الامتداد العربي.. في الجزيرة العربية.. وبلاد الشام.. والعراق.. أم مِن الاردنيين.. الذين هاجرت عشائرهم من أماكن أخرى.. بفعل الحروب.. والتغيرات السياسية.. فمنهم من حافظ على تماسكه.. ككيان عشائري.. ومنهم مَن تفكك لعائلات صغيرة.. بقيت تحمل إرث الانتماء.. وإن تغيرت المسميات..
العشائر الأردنية.. لم تكن مجرد إطار اجتماعي.. بل كانت.. وما زالت.. حجر الأساس في بناء الدولة.. ومنذ اللحظة الأولى لقيام الإمارة.. لم يكن هناك جيش نظامي.. قادر على حماية الأرض والحدود.. فكانت العشائر هي مَن تصدت لكل محاولة لزعزعة الأمن.. وكانت درع الأردن.. أمام كل مَن تُسوّل له نفسه العبث بسيادته واستقراره.. لا لأنها تفرض نفسها كبديل عن الدولة.. بل لأنها كانت الدولة.. قبل أن تكتمل مؤسساتها.. ولأنها جزء أصيل منها.. بعد أن قامت وتأسست..
ومع مرور الزمن.. تغيرت الأدوار.. وتبدلت الأولويات.. لكن بقيت العشائرية.. عنصراً حيوياً في نسيج الدولة والمجتمع.. وهنا جاء الاختبار الحقيقي.. هل تبقى العشائرية كما كانت دائماً.. رافعة للدولة.. ومصدراً لقوتها؟!.. أم تتحول إلى عبء عليها.. عبر استغلالها بطرق تسيء إليها.. وإلى الوطن؟!..
الإصلاح السياسي.. الذي نادى به جلالة الملك.. وننادي به جميعاً.. يقوم على ترسيخ دولة القانون والمؤسسات.. وهو ليس شعاراً للاستهلاك الاعلامي.. بل نهجٌ حقيقي.. يتطلب أن يكون معيار التقدم في الدولة.. مبنياً على الكفاءة والاستحقاق.. لا على المحاصصة.. وتوزيع المناصب.. وفق الولاءات الضيقة.. وهنا يأتي دور العشائر في دعم هذا التوجه.. فكما كانت دائماً سنداً للدولة في الملمات والأزمات.. يجب أن تكون اليوم.. سنداً للاصلاح الحقيقي.. بأن تكون العشائرية رافعة للمشروع الوطني.. لا عائقاً أمامه.. لا سمح الله..
العشائرية الإيجابية.. هي التي تحافظ على المبادئ.. والقيم التي نشأت عليها العشائر.. مثل النخوة.. والشهامة.. والوقوف إلى جانب الحق.. وهي التي تجعل العشائر ظهيراً للدولة.. حين تحتاجها في المحن والأزمات.. ولكن.. هناك مَن يحاول استغلال هذا الامتداد الاجتماعي لصالحه.. فيجعل العشيرة.. مظلة لحماية الفاسدين.. والمتجاوزين على القانون.. بل ويكرّس فكرة.. أن الانتماء للعشيرة.. أهم من الانتماء للوطن.. وهذا هو الخطر الأكبر..
لم تكن العشائر الأردنية يوماً حاضنة للفاسدين.. أو مرتعاً للمتخاذلين.. بل كانت دائماً.. وستبقى ميادين للرجال.. الذين قدموا أنفسهم.. وأبناءهم شهداء.. دفاعاً عن الأرض والكرامة.. ليس على الأرض الاردنية وحسب.. بل على الأرض العربية أينما طلبهم الواجب.. ولهذا.. فإن من يسعون لتوظيف العشائرية.. لأغراض شخصية.. أو لحماية المخالفين للقانون.. أو تاخير عجلة الإصلاح السياسي.. التي نتمنى ان ندور بشكلٍ أفضل وأسرع.. لا يمثلون العشائر الحقيقية.. بل يمثلون أنفسهم.. ومصالحهم الضيقة..
الدولة الحديثة.. لا تُبنى بالعصبيات الضيقة.. ولا يمكن أن تتقدم.. إذا تحولت العشائرية.. إلى وسيلة لفرض النفوذ.. أو تعطيل القانون.. بل تتقدم.. حين تبقى العشائر كما كانت دائماً.. سنداً للدولة.. لا عليها.. وصمام أمان.. يحمي الوطن.. لا وسيلة للضغط عليه..
إن الحديث هنا.. ليس عن العشائرية بذاتها.. بل عن الاستخدام الخاطئ لها.. فكما أن العشائر كانت صمام الأمان في الماضي.. يمكنها اليوم أن تكون صمام الأمان للمستقبل.. لكن ذلك يتطلب وعياً جماعياً.. بأن العشيرة.. لا تكون قوية.. إلا إذا كان الوطن قوياً.. وأن كرامة الفرد.. لا تُصان.. إلا بسيادة القانون.. لا بتغليب الولاءات الضيقة.. على المصلحة العامة..
فإن من يريد الحفاظ على إرث العشائر الأردنية الحقيقي.. عليه أن يدرك.. أن القوة ليست في حماية المخطئين.. بل في حماية الحق.. وليعلم الجميع.. أن العشائر الأردنية.. لم تكن في يوم من الأيام وسيلة للتربح.. أو غطاءً للفاسدين.. بل كانت.. وستبقى.. عنواناً للشرف.. والكرامة.. وحماية الوطن..
ما دعاني لهذا الحديث.. هو أنني تابعت حديث الإعلامي حسام الغرايبة.. الذي اثار لغطاً كثيراً.. وسمعته عدة مرات.. ما وجدت فيه.. غير ما ننادي به.. مِن تماسك للعِقد الاجتماعي.. المتمثل بالعشائر والعائلات.. وأن أي اجتزاءٍ لجملة من السياق.. ما هو إلا مِن فِعل مُغرضٍ حاقد.. يصطاد بالماء النتن والعكر.. ولا يريد بالأردن إلا الفتنة..
وإذا كان البعض.. قد اجتزأ حديث حسام الغرايبة.. وأخرجه عن سياقه.. ليصطاد بالماء العكر.. فإننا نؤكد.. أن العشائر لم تكن يوماً.. إلا صمام أمان للدولة.. وليست وسيلة للمتربصين لإشعال الفتن..
حمى الله الأردن.. حصيناً بعشائره.. قوياً برجاله.. مزدهراً بكفاءاته..