لحوم مستوردة بسعر البلدي .. خدعة تجار أم تنظيم حكومي؟
محمود الدباس - أبو الليث
06-03-2025 01:10 PM
في زمن تتداخل فيه الحقائق مع الأكاذيب.. وتصبح الإشاعات أكثر تداولاً من الأخبار الموثوقة.. يطل علينا "خبر عاجل" يحمل في طياته.. قصة لا تقل حبكةً عن أفلام الجاسوسية.. عنوان جذاب.. اتهامات نارية.. وسرد يفيض بالسخرية المصطنعة.. والنتيجة؟!.. جمهور يستهلك الحكاية.. دون تفكير.. يشاركها دون تحقق.. ويصنع من "الكذبة" حقيقة لا جدال فيها..
لكن دعونا نضع الأمور في نصابها.. ونكشف المستور في هذه القصة.. التي أُريد لها أن تكون فضيحة.. بينما هي في حقيقتها مجرد زوبعة في فنجان المصالح الضيقة..
- أولاً.. لمن لا يعرف قواعد اللعبة..
الأختام على اللحوم المستوردة.. ليست قراراً اعتباطياً.. أو فردياً.. وليست لعبة يُسمح للوزارة.. أو للمسالخ.. أو اللجنة المتواجدة على المنافذ الحدودية.. بتغييرها كما يحلو لها.. بل هي إجراء صارم.. تُشرف عليه جهات مختصة.. لضمان عدم التلاعب.. بين المحلي والمستورد.. فمنذ اللحظة التي تصل فيها الخروف أو الجدي.. إلى مسالخ لبنان المعتمدة.. تخضع لإجراءات رقابية دقيقة من لجان مختصة.. ثم تأتي إلى الأردن.. لتُختم بختم المستورَد.. وفقاً للتوجيهات الواضحة من وزارة الصناعة والتجارة وامامة عمان ووزارة الزراعة.. فكيف يتحول هذا الأمر إلى "مؤامرة كبرى"؟!..
أما قصة "اللحوم البلدية المزيفة".. فهي ليست إلا خرافة من صنع خيال تجاري مريض.. وأما الترويج لفكرة أن الوزارة تتلاعب بالأختام.. وتبيع الوهم للمستهلك.. فهذه رواية لا يصدقها إلا من يريد تصديقها.. أو من يملك مصلحة في ترويجها..
فالحقيقة التي يتجاهلها الكثيرون.. أن سوق اللحوم ليس عشوائياً كما يُراد تصويره.. فالجهات الرقابية في الأردن.. سواء وزارة الزراعة.. أو أمانة عمان.. او وزارة الصناعة والتجارة.. تفرض إجراءات صارمة على عمليات البيع والذبح.. وحتى الآن.. لم يُثبت أي تقرير رسمي.. أو تحقيق صحفي.. وجود حالات تغيير أختام.. أو تزوير منشأ اللحوم.. كما يروّج البعض.. فهل يعقل أن تتواطأ هذه المؤسسات جميعها.. على تضليل المستهلك.. دون أن يخرج دليل واحد حقيقي على هذه المزاعم؟!..
- ثانياً.. لماذا هذه الحملة الآن؟!..
من السهل جداً أن نعرف المستفيد من نشر هكذا إشاعات.. فكلما تحركت الحكومة لتنظيم الأسواق.. وتوفير بدائل بأسعار تنافسية.. خرجت بعض الأصوات تصرخ.. وتلطم.. وتتهم.. ليس حرصاً على المستهلك كما يدّعون.. بل لأن بعض التجار.. اعتادوا على احتكار السوق.. وفرض الأسعار التي تناسبهم.. دون رقيب أو حسيب..
وعلينا ان نعلم.. بأن فتح باب الاستيراد.. لم يكن ترفاً.. ولم يكن قراراً مفاجئاً.. بل جاء بعد دراسة مستفيضة.. للحفاظ على سلالة العواسي الأردنية.. التي يتهافت عليها سوق الخليج.. ومنع استنزافها عبر الذبح العشوائي.. والذي اصبح واضحاً في الاناث منها.. ومع ذلك.. لم يدخل إلى السوق الأردني.. حتى اللحظة.. إلا ألف رأس مذبوح فقط.. فهل يعقل أن تنقلب الموازين بهذه الكمية الضئيلة؟!..
- ثالثاً.. ماذا يريدون حقًا؟!..
المعادلة بسيطة.. هناك من يريدك أن تدفع أكثر.. أن ترضخ لأسعار مرتفعة.. دون أن تسأل.. وأن تبقى في دائرة "الخيار الوحيد".. الذي تفرضه قوى السوق المتحكمة.. فالمستهلك الواعي.. هو أسوأ كابوس لهم.. والمنافسة العادلة.. هي العدو الأول لهم.. لهذا تراهم يصرخون.. كلما ضُرب احتكارهم في مقتل..
لكن من المهم أيضاً أن نسأل.. هل استيراد اللحوم.. كان مجرد خطوة عشوائية.. أم أنه جزء من سياسة اقتصادية أشمل؟!.. إن التدقيق في قرارات وزارة الزراعة.. يكشف أن هذه العملية ليست مجرد استيراد للحوم.. بل محاولة لتحقيق توازن طويل الأمد في السوق.. فالأردن.. رغم مساحته الصغيرة.. يمتلك أحد أكثر القطاعات الزراعية حساسية في المنطقة.. والموازنة بين الحاجة المحلية.. والصادرات الإقليمية.. أمر لا يمكن التعامل معه بردود الفعل العاطفية.. أو حملات التشويه المفتعلة..
- رابعاً.. ماذا عن المواطن؟!..
وسط هذه المعركة.. بين التجار والوزارة.. والجهات ذات الصلة.. أين يقف المواطن؟!.. المواطن الذي يبحث عن سعر معقول.. وجودة مضمونة.. يجد نفسه بين كماشة التضليل والمصالح.. فالمستهلك ليس في حاجة إلى مزيد من الفوضى.. بل إلى شفافية حقيقية.. تضع أمامه الخيارات بوضوح.. فهل يُعقل أن نترك سوق اللحوم في قبضة من يحتكرونه لسنوات.. بحجة حماية المنتج المحلي.. دون أن نمنح المواطن بدائل حقيقية؟!..
دعونا لا ننسى.. أن الحكومة تتحمل مسؤولية كبرى في هذه المسألة.. فتنظيم الأسواق.. لا يقتصر على السماح بالاستيراد فقط.. بل يتطلب رقابة مستمرة.. وأسعاراً عادلة.. وضمانات تمنع استغلال المواطن.. سواء من قبل التجار.. أو حتى من الجهات الرسمية نفسها.. فوجود المنافسة.. لا يعني التلاعب.. لكنه يعني أن على الجميع.. أن يكونوا تحت المجهر.. سواء كانوا تجاراً محليين.. أو مستوردين.. أو حتى المسؤولين عن مراقبة الأسواق..
وأخيراً.. رسالة لمن لا يزال في حيرة..
الحقيقة لا تحتاج إلى ضجيج.. ولا الى منشورات تُكتب بلا اسم.. كما فعل صاحب المنشور المجهول.. فالحقائق لا تختبئ وراء ستار الخوف.. والوزارة لم تُخفِ شيئاً.. بل أعلنت استعدادها.. لفتح أبوابها لكل صحفي.. وباحث.. يريد أن يعرف الحقيقة من مصادرها.. كما حدث معي تماماً.. أما من يفضّل سماع القصص المثيرة فقط.. فليبقَ في دوامة الوهم.. وليأكل اللحوم التي تناسب خياله.. فربما يكون طعمها أكثر إقناعاً بالنسبة له!..