حدث أنني اضطررت لحضور بعض اللقاءات المهنية بامتثال إحدى المؤسسات الخاصة لحقوق المرأة في بيئة العمل وهي جهة تابعة - مع الأسف - لأكبر كذبة عرفها البشر: الأمم المتحدة. كان محور الاجتماع يدور حول متطلبات العمل في بيئة متوازنة لتحقيق المساواة الكاملة في الحقوق والفرص بين الرجال والنساء على حد سواء.
كان الاجتماع مع سيدتين من ذوات البشرة البيضاء والعيون الملونة عبر الزووم (وبالمناسبة أنا أيضاً أمتلك نفس الملامح البيضاء وعيوني زرقاء – وأصولي غسّانية عربية). بدأ الاجتماع معهن بكلمات رنانة عن تمكين المرأة، وعن ضمان بيئة عمل آمنة وعادلة، وعن أهمية حصول النساء على فرص متكافئة في كافة المجالات، إضافة إلى قيمة استخدام النساء والرجال معاً عند الاعلان عن منتجات حفاظاً على كرامة النساء من التسليع التجاري.
في كل عام، ومع اقتراب يوم المرأة العالمي، تتغنى الأمم المتحدة وأذرعها الحقوقية بمبادئ العدل والمساواة وحقوق المرأة، وتُصدر التقارير المُنمقة عن إنجازاتها في تمكين النساء حول العالم. تتزين المنصات الدولية بخطابات رنانة عن الإنجازات التي تحققت من أجل المرأة، عن حقها في التعليم والعمل، في القيادة وصنع القرار، في الحماية والأمان، وتتصدر النساء المشهد محلياً وعالمياً في الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ليوم واحد فقط بالعام!
ولكن ماذا عن النساء في بلادنا العربية المحمومة بالحرب؟ ماذا عن نساء غزة؟ وأضيف لهن اليوم نساء فلسطين بعد الاعتداءات الاخيرة على المخيمات ونساء جنوب لبنان وقبلهن نساء اليمن والعراق وربما نساء دول شقيقة أخرى غداً ؟! ماذا عن المرأة التي تكتب اسمها على جسدها حتى لا تُفقد هويتها تحت الأنقاض؟ ماذا عن المرأة التي تلد وترضع في الخيم الباردة؟ ماذا عن الأم التي تحتضن أطفالها خوفًا من أن يكونوا الرقم التالي في قائمة الشهداء؟
ربما تعني حقوق المرأة، في نظر الأمم المتحدة، الجلوس على طاولات الحوار، إصدار التوصيات، إطلاق الحملات العالمية بموازنات ضخمة؛ لكن ماذا عن الحق الأساسي في الحياة؟ ماذا عن حق هؤلاء النساء في الحصول على طعامٍ نظيف، وسريرٍ دافئ، ودورة مياه صحية تضمن لهنَّ القليل من الخصوصية؟ ماذا عن حقهن في عدم العيش تحت السماء المفتوحة كلاجئات في وطنهن؟
منذ بدء الحرب على غزة وفي ظل أوضاع أشبه ما تكون معدومة، هناك سؤال واحد يراودني خلسة كأنثى كل شهر دون إجابة... ماذا تفعل نساء غزة بطبيعتهن البشرية التي منّ الله بها على أجسادهن كباقي نساء العالم، وهنّ يفتقدن الخصوصية ويعشن صراعاً داخل صراع ؟ كيف يتعاملن مع دورتهن الشهرية وهُنّ لا يجدن أبسط مقومات الحياة من مأوى ومأكل ومشرب؟ كيف يواجهن ألم الحيض دون كأس شاي ساخن بالميرمية وحبة مسكن للألم، ودون مستلزمات الصحة الشخصية التي تقيهن شر الأمراض؟
وبعد التقصي من خلال إحدى الجمعيات المقدسية التي أتطوع بهيئتها الادارية، علمتُ أنهن قد يستخدمن قطع قماش مهترئة، وربما غير نظيفة بسبب قلّة الماء، أو حتى قطع قماش خشنة من الخيم التي تأويهن هن وعائلاتهن في العراء... في البرد... في الجوع... في المرض... في امتهان كبير لكرامتهن الإنسانية! كل ذلك يحدث في ظل غفلة من العالم العربي والغربي على حد سواء!
قد يبدو هذا الشأن غير قابل للنقاش أو التداول، فنحن عادة ما نواجه القضايا الحساسة بإخفاء رؤوسنا في التراب كالنعام، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بخصوصية المرأة، لإننا مجتمع لا يقبل التعاطي مع هذه القضية بصدق! ولكن اليوم أرغب في تجاوز الخطوط الحمراء وطرح السؤال بوضوح: أين حقوق المرأة حين تتحول حياتها إلى مأساة مستمرة؟ ما تفعل عندما تحيض كل شهر؟!
نحن اليوم نتحدث عن حقوق العمل والتمكين السياسي، بينما هناك نساء يقاومن الألم شهريًا دون أدنى وسائل العناية الصحية، هناك
نساء يستخدمن قطع قماش مهترئة، تتسبب لهن في التهابات وأمراض لا تجد من يعالجها؛ نساء ينزفن في صمت، لا يجرؤن على الشكوى، لأن الشكوى رفاهية حين يصبح الموت هو البديل الوحيد.
وفي مراكز الإيواء، لا شيء اسمه "حقوق المرأة"، لا قوانين تحميها من العدوان الارهابي، لا أماكن آمنة توفر لها الأمان، لا أدنى مقومات للكرامة الإنسانية، حيث تُجبر النساء على التخلي عن خصوصيتهن، عن أنوثتهن، عن كرامتهن، ليصبحن مجرد أرقامٍ في قوائم المنكوبين، في قوائم الانتظار الطويلة للحصول على أي شيء: الغذاء، الماء، وحتى ورقة منديل تمسح بها دموعها.
إن كانت الأمم المتحدة تدّعي حماية المرأة، فأين هي مما يحدث في غزة؟ لماذا لا نرى تقاريرها تتناول هذه القضايا بوضوح؟ لماذا لا تُعقد مؤتمراتها في الخيام التي تحولت إلى قبورٍ باردة بعد ردم منازلها؟ لماذا تظل تلك الحقوق مجرد سطورٍ مكتوبة تُناقش في قاعات مكيفة بينما يُقتل الواقع برصاصة صمتهم؟
المرأة الغزّية اليوم (والمرأة العربية في البلاد المحمومة) ليست بحاجة إلى كلمات المواساة ولا إلى أيام عالمية وأعياد وطنية، ولا إلى حملات تسويق حقوقية، ولا إلى توصيات أممية تُضاف إلى الأدراج الممتلئة بالغبار؛ هي بحاجة إلى حياة، إلى سقف، إلى أمان، إلى غذاء، إلى أن تنام دون أن تخاف من أن تستيقظ تحت الأنقاض.
ما قيمة الحقوق حين يصبح الموت أكثر عدالةً من الحياة؟ اعتقد أنه حان الوقت لنتجاوز الخطوط الحمراء التي صنعها الصامتون، لنكسر جدار الصمت الذي تحتمي خلفه المنظمات الدولية، لنطالب بحقوق ليست مجرد شعارات جاهزة، بل حقوق تنبض في صميم الحياة اليومية، لأن المرأة ليست قضية للمؤتمرات، بل كيانٌ يستحق الحياة، حتى تحت القصف، حتى في الظل الذي نسيه العالم...