غزة .. صرخة إنسان تُحرّك الضمائر
د. محمود الشغنوبي
04-04-2025 04:28 PM
في قلب المأساة التي تطحن غزة، تهتزّ الضمائر، وتنكسر النفوس أمام مشهد طفل يُنتشل من تحت الركام وهو لا يزال قابضًا على دميته، كأنها آخر ما تبقّى له من هذا العالم. هذه ليست مجرد حرب، بل هي زلزال أخلاقي يهزّ ضمير الإنسانية من جذوره. كل قذيفة تسقط، لا تُمزق الجدران فقط، بل تمزق ما تبقّى من صمتنا. كل شهقة ألم هناك، تُذكّرنا كم نحن صغار أمام عظمة المعاناة، وكم نحن عاجزون أمام دموع أم تُشيّع فلذة كبدها بيديها المرتجفتين.
وسط هذا الجحيم اليومي، تمتد بعض الأيادي لزرع الفتنة وإلقاء اللوم على هذا وذاك؟ بأي قلب نختلف ونتناحر، بينما قلوب أهل غزة لم تعد تتسع إلا للحزن؟ بأي حق نمارس الترف السياسي، وهناك من يُسلبون حقهم في التنفس؟ أليس من الخزي أن نغرق في جدل عقيم عمّن كان السبب وراء كل ما يحدث بينما الأطفال هناك يتنازعون أنفاسهم الأخيرة تحت الأنقاض؟
المستشفيات أصبحت غرف انتظار للموت، لا تُداوي، بل تُعدّ الأرواح للرحيل. المدارس التي كانت تضجّ بالضحكات، تحوّلت إلى ملاجئ تفتقد حتى الأمان. وحتى المقابر، ضاقت بما فيها، فصار الموتى يُوارَون في حُفر جماعية، وإن توفرت الأكفان لم اعد تتوفر لها أسماء، بل صارت تٔكتب الوان الملابس على الكفن. وكلهم يغادرون بلا وداع، بلا دعاء. يا أيها العالم، أما زال فيك شيء من إنسانية؟ أم أنّ الضمير مات مختنقًا بدخان الصفقات والمصالح؟
هنا لا نتحدث عن أرقام جامدة، بل عن بشر، عن أرواح، عن حكايات وأحلام انتهت فجأة. عن أمّ تمزّق صوتها بين الركام بحثًا عن رضيعها، عن أبٍ يُخرج ابنه من تحت الحجارة ثم يعود ليحفر له قبرًا بيديه، عن طفولة تُولد تحت وابل الصواريخ فلا تعرف من العالم إلا صوته القاسي. في غزة، الموت لم يعد حدثًا، بل صار روتينًا يوميًّا. والدم، لم يعد يفاجئ أحدًا، بل صار لونًا مألوفًا على الجدران.
في لحظة كهذه، لا مكان للانقسامات. لا معنى للرايات الخضراء أو الصفراء أو الحمراء، ولا جدوى من الشعارات. حين يصرخ الطفل، لا يسأله المسعف عن طائفته. حين تنهار البيوت، لا يهم من يسكنها، فالقصف لا يفرّق بين منتمي ومخالف. الألم لا يعترف بالانتماءات، بل يتحدث بلغة واحدة: لغة الإنسانية الخالصة.
آن الأوان لأن نخجل... نعم، نخجل من صمتنا، من تهاوننا، من انشغالنا بالتفاهات. آن لنا أن نفيق من سبات اللامبالاة. التاريخ لن يسألنا عن مواقفنا السياسية، لكنه سيحاكمنا على صمتنا. سيكتب: هل كنّا في صفّ الإنسان؟ أم كنّا شهود زور على مذابح تُرتكب في وضح النهار؟
غزة اليوم لا تطلب الشفقة، بل تطلب الصحوة. تطلب ضميرًا لا يخاف أن يصرخ، ولا يتعب من المقاومة. فهل سنكون على قدر هذا النداء؟ أم أننا سنبقى نلوك الكلمات بينما تُسلَب الأرواح؟
تذكّروا: عندما يصمت الضمير، يتحوّل الصمت إلى خيانة. وعندما تموت الإنسانية فينا، نصبح كلنا ضحايا، حتى قبل أن نُصاب.
ليس هناك وقت للنزاعات والفرقة، ليس هناك مساحة لتحميل الأخطاء لطرف دون الآخر، فالشعب يُقتل والدماء تسيل بغزارة. عندما يحل البرد القارس، تجتمع العائلة حول المدفأة تتشارك الدفء. وعندما يهب الحر اللاهب، يلتف الجميع حول المكيف يبحثون عن نسمة هواء. هذه هي الفطرة الإنسانية - في الأزمات يجب أن ننسى خلافاتنا ونبحث عن ما يجمعنا. اليوم في غزة، الأزمة ليست برداً ولا حراً، بل هي موت وحصار وجوع. فلماذا لا نلتف جميعاً .حول الإنسان
الوقت ينفد، والدماء تسيل، والأرواح تزهق. ليس المطلوب منا أن نكون أبطالاً، لأننا لن نكون، فقط أن نكون بشراً. لأن الإنسان، أي إنسان، في أي مكان، هو قضيتنا الأولى والأخيرة. غزة تنادينا اليوم: هل سنكون عند مستوى الإنسانية؟ أم سنخسر إنسانيتنا كما خسر أهل غزة كل شيء؟