الاتزان في المواقف حصن الأوطان عند اشتداد العواصف
د. تمارا زريقات
07-04-2025 07:30 AM
في زمن تتكاثف فيه المحن وتزداد فيه جراح الأمة عمقًا، تظلّ غزة جرحًا مفتوحًا في الضمير العربي، وصفحة دامية تروي حجم المأساة التي لا تعرف نهاية. والأردنيون، بما عُرفوا به من وفاء أصيل وانتماء صادق، لم يكونوا يومًا على هامش القضية، بل ظلّ نبضهم متصلًا بنبض فلسطين، وأصواتهم حاضرة في كل لحظة وجع. غير أنّ المشاعر وحدها، مهما بلغت حرارتها، لا تكفي حين لا يصاحبها وعي يُدرك أبعاد المواقف، ولا يتبصّر بنتائجها على المدى البعيد.
ومن رحم هذا الشعور النبيل، تبرز تساؤلات مشروعة حول الوسائل التي نعتمدها في التعبير عن تضامننا، ومدى فاعليتها في تحقيق الغايات التي نرجوها.
لقد جُرّب الإضراب سابقًا في محطات عديدة، ولم تثمر تلك الخطوة سوى مزيد من الخسائر الاقتصادية، وتعطيل مصالح المواطنين، دون أن يكون لها أثر ملموس على صعيد وقف العدوان أو تغيير المعادلة السياسية. ولذا، فإن العودة إلى ذات الوسائل، رغم نُبل النوايا، تُعد تكرارًا لأسلوب ثبت عجزه؛ والأحرى أن ننتقل إلى أدوات أذكى وأكثر نفعًا لغزة، ولنا كذلك.
الإضراب، حين يُعلن تحت لافتة التضامن، يتسبب بتوقف العجلة الاقتصادية التي تعاني أصلًا من التباطؤ، ويُرهق القطاعات المنتجة، ويُربك حياة فئات تعتمد على يوم العمل لسدّ حاجاتها الأساسية. وفي المقابل، لا يتأثر الاحتلال بغياب الحضور عن المؤسسات، ولا تتوقف آلة القتل، ولا يُرفع الحصار. بل قد يرى المتربصون بنا فرصة للنيل من تماسك الدولة، أو تصويرها على أنها تفقد سيطرتها على مساراتها الحيوية.
في الوقت ذاته، من الطبيعي أن تتولد لدى الشارع حالة وجدانية تدفعه نحو التعبير والمشاركة، غير أن المصلحة الوطنية تقتضي أن يُترجَم هذا الوجدان إلى فعل واعٍ ومسؤول. فالدفاع عن غزة لا يتحقق بإرباك الداخل، ولا بتقويض الاستقرار، بل من خلال تمتين الجبهة الوطنية، وتعزيز صمود الدولة، ورفع كفاءة أدوات الدعم السياسي والإنساني.
لقد شكّلت القيادة الهاشمية عبر العقود ركيزة صلبة للاستقرار السياسي ومرجعية أخلاقية في إدارة المواقف الوطنية والقومية، حيث تميّزت تحركات الدولة الأردنية، في أكثر اللحظات حساسية، باتزان رفيع يجمع بين الحزم في الثوابت والمرونة في الوسائل. هذا النهج لم يكن ارتجاليًا، بل قائمًا على قراءة استراتيجية دقيقة لمعادلات الإقليم، مع إصرار واضح على صون الحقوق الوطنية، وتحصين القرار السياسي من الضغوط والانفعالات. وفي هذا السياق، أثبت الأردن أنه لا ينجرّ خلف ردود الأفعال العابرة، بل يخط مساراته استنادًا إلى رؤية تستشرف المدى الأبعد، وتحافظ على اتساق الرسالة الأردنية في المحافل الإقليمية والدولية.
أما الجيش العربي الأردني، فقد ظلّ وفيًا لعقيدته الراسخة القائمة على حماية الوطن والذود عن قضاياه، فكان — وما زال — جزءًا أصيلًا من معادلة السيادة الوطنية، وركنًا فاعلًا في الدفاع عن منظومة الأمن القومي. لقد امتزجت مهنية هذا الجيش بالانضباط القيمي، فشكّل نموذجًا في الالتزام والانتماء، وظلّ صوته حاضرًا في ذاكرة الأمة من خلال تضحيات رجاله ودماء شهدائه، التي سالت في معارك الحق والواجب، وفي طليعتها معركة الكرامة وباب الواد واللطرون التاريخية والتي رسّخت موقع الأردن في الوعي العربي الجمعي.
إن هذا التلازم بين القيادة الحكيمة والمؤسسة العسكرية الراسخة يعكس جوهر الدولة الأردنية الحديثة، التي تجمع بين الرؤية والقدرة، بين الشرعية والمهنية، وتُجسّد مفهوم الدولة التي تعرف متى تصمت لتُحصّن، ومتى تتحرك لتُعبّر، ومتى تتخذ الموقف الذي يخدم مصالحها ومبادئها في آن واحد.
أما الشعب الأردني، فقد أظهر عبر العقود وعيًا استثنائيًا، وقدرة على التمييز بين العاطفة العادلة والفعل المؤثر. وهو اليوم مدعوّ، أكثر من أي وقت مضى، لأن يواصل هذا النهج، فيقف إلى جانب وطنه بثبات، ويصون مؤسساته من الإرهاق، ويمنع اختراق الجبهة الداخلية تحت أي ذريعة، لأن أي خلخلة في الصفوف تُسهم في تقليص القدرة الجماعية للأمة على الدفاع عن قضاياها.
من أراد أن يناصر غزة، فالمجال مفتوح أمامه بوسائل أكثر جدوى، وأكثر التزامًا. التبرع من خلال الجهات الرسمية كـ”الهيئة الخيرية الهاشمية” يضمن وصول الدعم إلى مستحقيه، والمشاركة الواعية في الحملات الإنسانية والإعلامية، والنشاطات القانونية والدولية، ترفع صوت غزة في المحافل العالمية، وتُربك الاحتلال حيث يُوجَع فعلًا.
الالتفاف حول القيادة، والثقة برجال الجيش، والاعتزاز بالشعب الواعي، هي أسس لا غنى عنها في أي لحظة مصيرية. ومن يحرص على فلسطين حقًا، يُدرك أن قوة الأردن هي جزء من معادلة النصر؛ وأن الإضرار بالدولة، سواء بالتعطيل أو بالتجاوزات أو بتأجيج الانفعالات، لا يحقق مكاسب وطنية، بل يُربك الموقف ويشوّش الرسالة.
إننا نمرّ بمرحلة تتطلب أعلى درجات النضج والمسؤولية. فالحكمة تقتضي أن نختار الوسيلة التي تنفع، لا تلك التي تُرضي العاطفة وحدها. والوعي الحقيقي يُدرك أن حماية الوطن ليست ترفًا، بل ضرورة تُبقي لنا القدرة على أن نكون طرفًا فاعلًا في معركة الكرامة التي تخوضها الأمة. وهكذا يكون الانتماء: وعيًا قبل الهتاف، وعملًا قبل الاستعراض، وثقة راسخة بأن هذا الوطن، بقيادته الرشيدة، وجيشه النبيل، وشعبه الصابر، سيظلّ واقفًا حيث يجب، داعمًا حيث يُطلب، ومتماسكًا حين تُختبر الإرادات