مَن يزرع الغضب .. ويظن الدهماء تُروَّض .. فليتأهب للحريق
محمود الدباس - أبو الليث
10-04-2025 06:24 PM
حين يُضرَب السيف في غير غِمده.. فذلك ليس فعلاً عارضاً.. بل إنذارٌ بخروج الأمور عن نصابها.. فالسيف حين يُشهر دون حكمة.. أو يُضرب في غير موضعه.. فإن نتائجه لا تكون نصراً.. بل طعنة في خاصرة الاستقرار.. هو رمزٌ لكل ما هو حادٌ وقاطع.. قد يكون قراراً.. أو سلطةً.. أو خطاباً شعبوياً يُطلق دون رويّة.. فإذا ما استُخدم في غير وقته.. أو وُجّه لغير هدفه.. أوقع الظلم بدل العدل.. وفتح أبواب الفتنة بدل الإصلاح.. ولعل أخطر ما في هذا السيف.. أن اليد التي تحمله.. تظن أنها تُحكم قبضتها عليه.. لكنها لا تدري متى تنفلت تلك القبضة.. ومتى ينقلب حدّه عليها.. تماماً كالدهماء حين يُستَخدمون كأداة.. فإذا ما اشتعل غضبهم.. لم يعرفوا صديقاً من عدو.. ولا ظالماً من مظلوم..
كانوا دوماً هناك.. في الحروب والثورات والمواسم الكبرى.. وجماعات البيعة والولاء والهتاف.. من كانوا يُسمّون بالدهماء.. أولئك الذين لا يحملون فكراً ممنهجاً.. ولا مشروعاً واضحاً.. لكنهم يحملون الحماسة الزائدة.. والعاطفة المتدفقة.. والاندفاع الذي لا يُقاس بعواقب..
ليسوا شراً في أصلهم.. ولا فساداً في طبيعتهم.. بل هم كالسيل.. إما أن يُهتدى به.. فيسقي الأرض ويعمرها.. أو يُطلق بغير وعيّ.. فيغمر القرى.. ويهلك الزرع والنسل..
الفرق لا يكمن فيهم.. بل فيمن يقودهم.. ومن يوجّه هذا السيل.. فهنا مكمن الخطر.. وهنا مربط الفرس..
إن أخطر من يشكّلون تهديداً للوطن.. ليسوا الدهماء أنفسهم.. بل أولئك الذين يقفون خلفهم.. يحرّكونهم في الخفاء.. يصنعون من بساطتهم سيفاً.. ومن مشاعرهم قنبلة.. ومن جهلهم مشروعاً يخدم غايات خاصة.. وأجندات مريبة..
فهناك من يستغلهم باسم الإصلاح.. بينما هو يغزل بخيوط الفتنة.. وهناك من يلبس ثوب الحكمة والخير.. لكنه يزرع فيهم الغضب.. ليقطف نتائجه حيث يشاء..
إن مَن يتعامل مع الدهماء على أنهم وقود لمعركة ما.. عليه أن يدرك جيداً.. أنه لا يُمسك بزناد سلاح عادي.. بل بصاعق انفجار.. قد لا يستطيع إيقافه إن انطلق..
تاريخ الأمم يروي الكثير من حكايا انفلات العامة.. حين ظنّت الأنظمة والتنظيمات على حدٍ سواء.. أنها تُحكِم السيطرة عليهم.. فانقلبوا عليها في لحظة واحدة.. قلبوا الطاولات.. خربوا الحقول.. أحرقوا المدن.. وهتفوا ضد من لقّنهم الهتاف بالأمس..
ويا ليت مَن بيدهم الرأي والحكمة والسلطة يعتبرون.. ويا ليت مَن بيدهم القرار والإصلاح.. ينظرون أبعد من حدود اللحظة..
فلا تظن أن الدهماء طوع بنانك.. ولا تفرح إن هتفوا لك يوماً.. فإن قلوبهم متقلبة.. وغضبهم سريع الاشتعال.. ومَن يزرع فيهم اليوم شعاراً كاذباً.. قد يُحرق به غداً صِدقَ مَن لم يشاركه في الفساد..
إن أعظم مسؤولية اليوم.. تقع على عاتق الحكماء.. على الدولة بكافة مؤسساتها.. وعلى التنظيمات التي ترفع شعار خدمة الوطن.. أن تزن الكلمة.. قبل أن تُقال.. وأن تضع حدوداً لاندفاع الجماهير.. قبل أن يتحولوا إلى طوفان..
ليس خوفاً من الشعب.. بل خوفاً عليه.. لا رغبة في كتم الصوت.. بل حرصاً على أن لا يتحول إلى صراخ أعمى..
إن مَن يحب الوطن حقاً.. لا يثير الناس.. لأجل مكاسب ضيقة.. ولا يستغل غضبهم.. لمناكفة خصم سياسي.. ولا يشعل فيهم ناراً.. يعلم أنها لن تنطفئ بسهولة..
فالدهماء إن انفلتت.. لا تُميز بين فاسدٍ ومصلح.. ولا بين مشروع هدمٍ وبناء.. بل تسير حيث تجد الصوت الأعلى.. والقبضة الأقوى..
وما أكثر الأصوات الصاخبة اليوم.. وما أضعف صوت الحكمة.. إن لم يُرفع بقوة وثبات وصِدق..
فلينتبه الجميع.. فإن الدهماء إن تحولت إلى سلاح.. فلن يسأل هذا السلاح عمّن وجهه.. بل سيضرب الجميع دون تمييز..
ومَن أشعل ناراً لا يدري أين ستحرق.. فليتجهز إن كانت داره أولها..
وعلينا أن نعي.. إن الحكمة ليست مجرد سمة.. بل هي عبء ثقيل على مَن يمتلكون القرار.. إنها السيف الذي لا يخطئ هدفه.. ولا يرفعه.. إلا مَن يعرف كيف يدير قلبه وعقله معاً..
فحين تشتعل النيران.. لا يُسأل مَن أشعلها.. بل يُسأل مَن كان في يده الماء.. ولم يُقدّره حق قَدره..
إن المسؤولية اليوم.. لا تقع على عاتق الدولة فقط.. بل على كل مَن يمتلك أدوات التأثير.. سواء كانت سلطةً.. أو تنظيماً.. أو رأياً عاماً..
فالمسؤولية لا تقتصر على إيجاد الحلول السريعة لمشاكل آنية.. بل على وضع أسس عقلانية ومُحكمة.. تمنع الغضب من أن يتحول إلى طوفان.. وعلى الجميع أن يدركوا.. أن ما يُزرع اليوم.. قد لا يُحصد غداً.. وأن مَن يتحكم بمشاعر الجماهير أياً كان.. عليه أن يحسب حساب العواقب المترتبة على ذلك..