حين يكون العدل عقيدة .. لا رأياً عاماً
محمود الدباس - أبو الليث
17-04-2025 12:45 AM
منذ أن وعى هذا الوطن على نور الدستور.. وتشكّلت سلطاته بثباتٍ نابع من شرعية التاريخ والمكان.. ظلّ القضاء في الأردن.. شامخاً كجباله.. لا تحركه رياح الرأي.. ولا تصرخ فيه عواصف العاطفة.. ظلّ ميزان الحق بين يديه.. لا يميل.. إلا حين تكون الكفة أثقل بالحُجّة.. لا بالحملة.. وأرجح بالدليل.. لا بالصوت العالي..
فلو أن قضاتنا -لا سمح الله- استجابوا لما يدور على صفحات التواصل الاجتماعي من سيل الاتهامات.. والفيديوهات.. وتماهوا مع الأصوات التي ترتفع كلما طرحت قضية للرأي العام.. لرأينا السجون تعج بأبرياء حُكم عليهم باللايك.. لا بالقانون.. ولرأينا المجرمين والفاسدين يخرجون مزهوين.. بعدد مشاركات مَن يدافع عنهم باسم القرابة.. أو المصالح الضيقة..
الحمد لله.. أننا في وطنٍ لم يتخلّ فيه القضاء يوماً عن استقلاله.. ولا عن تعفّفه عن مَواطن الشبهة.. أو التوجيه.. فمنذ أن كان القضاء عشائرياً.. قبل أن يُدوّن في القوانين.. وإلى أن صار محكمة عليا ودستورية وإدارية.. وهو مقصد كل صاحب مظلمة.. وهو صمّام الأمان.. الذي لجأ إليه القوي قبل الضعيف.. ووقف أمامه الكبير قبل الصغير..
في الأردن.. لا يعلو على صوت القاضي.. إلا صوت ضميره.. ولا يرتفع على منصة الحكم.. إلا من نذر نفسه ليكون لسان العدل.. لا صدى الجماهير.. ومَن قرأ في تاريخ محاكمنا.. وعاش في ساحاتها.. علم أن ميزانها.. لا يتأرجح.. إلا حين تتساوى الكفتان.. وأن رجالاتها لا يُخضِعون قراراتهم.. إلا لكتاب القانون.. لا تعليقات الجمهور..
وهنا نَفخَر.. حين نعلم.. أن لا سلطة فوق سلطة القضاء.. ولا أحد في الدولة.. يجرؤ أن يهمس في أذن قاضٍ.. لأن السلطة القضائية.. كانت وما زالت.. حُرّة في قرارها.. وحرّة في احترامها من كل مؤسسة.. بل إن مؤسسات الدولة كلها.. تقف على مسافة واحدة منها.. تحترمها.. وتنتظر حكمها.. وتعرف أن خلف القرارات رجالاً عرفوا.. أن لا نجاة في الدنيا قبل الآخرة.. إلا بالعدل..
فالقاضي لا يرى "الترند".. بل يرى الملف.. لا يستمع لصوت الجمهور.. بل لصوت الضمير.. لا يهتم بعدد المتابعين.. بل يهتم بعدد الأدلة وقوتها.. فلا يؤثر في حكمه عدد اللايكات.. ولا يؤخر قراره رنّات التنبيه من هواتف الغضب..
فدعوا القاضي يكتب حكمه بلا ضغط.. ولا تركبوا موجة كل قضية تريدون تحويلها لمعركة رأي عام.. ولا تخلطوا بين القضاء والصحافة.. فلكل منهما طريق.. ومَن حاد عن الطريق.. سقط في بئر الظلم..
فأريحوا صفحاتكم.. وانيخوا ركائبكم.. واركوا رباباتكم.. فأنتم في الأردن.. بلد الأحرار النشامى.. وتحت ظل قيادة هاشمية.. لم تجعل القضاء لعبة.. ولا أضحوكة بيد صفحات التواصل.. ولا تحت وصاية أحد..
نحن في وطنٍ لم يسمح ولن يسمح.. بأن يكون القضاء سلعةً لمن يدفع أكثر.. ولا ورقةً بيد من يصرخ أعلى.. بل جعله قبلةً لكل من ضاقت به الدنيا.. فوجد في قاعة المحكمة اتساع السماء..
فهنيئاً لنا بهؤلاء الرجال.. وهنيئاً لوطنٍ عظيمٍ لم يجعل القضاء في يد العابثين.. ولا تحت رحمة الموجات العابرة.. لأن في هذا الوطن.. مَن يقف بيننا وبين الفوضى.. بقلب قاضٍ.. وضمير دولة.. وعدلٍ لا يحيد..
فكلنا نقول.. سمعاً وطاعة.. لكل ما ينطق به القاضي..