في موروثنا العشائري.. حين تتلبد السماء بغبار الفعل الخاطئ.. ولا تعود الكلمات تكفي لستر الحرج.. أو دفع الغضب.. يأتي ما يُعرف بـ "عطوة الاعتراف".. ليست كبقية العطوات.. التي تطلب الستر.. أو تأجيل المواجهة.. بل هي إعلان واضح.. وجريء.. لا مواربة فيه.. أن الخطأ قد وقع.. وأن الفاعل وأهله لا يتهربون.. ولا يناورون.. بل يقرّون ويعترفون.. ويسيرون إلى أصحاب الحق برؤوس مرفوعة.. لا لأنهم لم يخطئوا.. بل لأنهم شجعان بما يكفي لتحمل التبعات.
في تلك اللحظة.. حين تقول الجاهة "جئنا بعطوة اعتراف".. يهدأ الجمع.. تنخفض الحواجب.. وتخفّ القبضات.. لأن النفوس المشتعلة.. لا تهدأ حين تُهدى الكلمات الرقيقة.. بل حين تُقدم الحقيقة صافية دون رتوش.. فتبدأ حينها رحلة التفاهم.. لا من موقع المكابرة.. بل من منصة الصدق.. وتُبنى من هناك جسور العفو.. أو العدل.
هذا المبدأ الأصيل.. لو حُمِل من ساحات العشيرة.. إلى فضاءات الدولة والمجتمع.. لتغير وجه الحياة.. فكم من مؤسسة أخطأت.. ثم استكبرت.. فزادت الطين بلة.. وكم من مسؤول أخفق.. فاختبأ خلف البيانات والتبريرات.. بينما كان الاعتراف كفيلاً بفتح أبواب التفاهم.. لا بوابات الغضب.
تأمل في السياسة.. حين تُقترف الخطيئة باسم الوطن.. أو باسمه تُرتكب الحماقات.. هل يهدأ الشعب حين تُكذّب الوقائع.. ويُتهم المتألم بالجهل؟!.. أم أن الاعتراف بخطأ القرار.. وقصوره.. وشجاعة تحمّل المسؤولية.. هو الطريق الأقصر لاستعادة الثقة؟!.. الشعوب لا تسامح مَن يكابر.. ولكنها تسامح أحياناً.. مَن يعتذر بشرف.
وفي الاقتصاد.. كم من خطة نُفّذت.. وكم من مشروع أُطلق.. ثم ثبت فشله.. أو ضرره.. فبدلاً من الاعتراف وإعادة الحسابات.. تمادت الجهات المسؤولة في الإنكار.. فتضاعف الضرر.. وتحولت الخسارة من رقم في دفاتر الحسابات.. إلى نزيف في قلوب الناس وثقتهم.
حتى في العلاقات الدولية.. لا تُبنى المعاهدات.. ولا تُبرم الهدنات على الإنكار.. بل حين تقول الدولة المعتدية "لقد أخطأنا".. حينها فقط.. يشعر المعتدى عليه بأن المسار سيتجه نحو العدالة.. لا المراوغة.. وأن المسامحة واردة.. ما دام هناك مَن يعترف ويطلبها.
الاعتراف ليس ضعفاً.. بل هو أول درجات القوة الأخلاقية.. أن تقول "أنا المخطئ".. وأنا مستعد لأن أتحمل.. فحينها لا يشعر الطرف الآخر بأنه بحاجة إلى رفع سقف مطالبه.. أو المبالغة في استرداد حقه.. بل يميل إلى الإنصاف.. وربما إلى العفو.. لأن الإنسان في نهاية المطاف.. لا ينتصر على الآخر حين يُذله.. بل حين يشعر بأنه فهمه.. وواجهه بالحق.
وهكذا تبقى "عطوة الاعتراف".. درساً تتجاوز حدوده العشيرة.. لتكون مبدأ حضارياً وإنسانياً.. في كل بيت.. وكل وزارة.. وكل مؤسسة.. وكل ساحة تفاوض.. وكل منصة حكم.. فلا عدالة تُبنى على إنكار.. ولا سِلم يُعقد على كبرياء كاذب.. ولا مستقبل يُرجى من خلف حيطان المراوغة.. فحين يغيب الاعتراف.. تتضاعف نقمة المظلوم.. وتُستفز كرامته.. وتُغذّى مطالبه بالمرارة بدل التفاهم.. فتراه يطالب بأقسى أنواع الحكم.. لا لشيء.. إلا ليشعر.. أن حقه لم يُدفن في دهاليز الإنكار.. بينما كان من الممكن أن يُخفف الحكم.. أو حتى تُمنح المسامحة.. لو كان في المقابل صدق واعتراف.. فالقلوب لا تُلين بكثرة الحكي.. بل حين تشعر أن الآخر.. لم يعد يختبئ خلف وهم البراءة.
فما أوسع الطريق الذي يبدأ بكلمة "أخطأنا".. وما أضيق الطرق حين تُقال "ما إلنا علاقة".