ليس الانتماء للوطن كلماتٍ منمقة.. ولا عباراتٍ تتزين بها المجالس والصفحات.. ولا مشاعر مستعارة نستعيرها عند الحاجة.. ثم نخلعها كما نخلع المعاطف القديمة.. الانتماء روحٌ تسكنك.. ودمٌ يسري في عروقك.. وعهدٌ لا يقبل النقض.. مهما جار الزمان وتقلبت الأحوال..
كم نسمع من شعاراتٍ تنضح بالعشق للأردن.. وكم نصادف وجوهاً يعلوها مسوح الولاء.. والحرص على وحدة البلاد.. وأمن العباد.. تسمعهم يتغنون بأنهم سياجٌ للوطن.. ودرعه الحامي.. وأنهم مستعدون لتقديم الأرواح والمهج دون ترددٍ.. أو حساب.. وأن أهم شيء عندهم هو الوطن.. فتظن أن الأرض أنجبت فيهم بطولات الصحابة.. وأخلاق الفرسان..
ولكنك لا تكاد تدير ظهرك.. حتى ترى الأيادي ذاتها.. تبث سمومها بمنشوراتٍ مسمومةٍ.. ومقالاتٍ ظاهرها النصح.. وباطنها السُم الزعاف.. تشكك في مؤسسات الوطن.. وتزرع الرعب واليأس في نفوس الناس.. كأنهم يبشرون بأرضٍ ستُجتث من جذورها لا محالة..
فينقلون بشغفٍ عن أقلامٍ وأصحاب مقاطعٍ لا تريد لهذا الوطن.. إلا الوهن والتشرذم.. يرددون كلماتٍ تصنع فجوةً بلا قرار.. بين المواطن ومؤسساته.. متناسين أن الحفاظ على الثقة.. لا يعني تبرير الأخطاء بأي حال.. ولا الفساد بكل وجوهه.. بل يعني أن نصون صلابة الجبهة الداخلية.. وأن نمتلك القدرة على الإصلاح بعقلٍ لا تهزه الأهواء..
وفي المقابل.. تجدهم لا ينقلون اي جميل وايجابي للوطن.. فأي فكرٍ تحملون؟!.. وأي هدفٍ تسعون لتحقيقه؟!.. ومصلحة مَن تعملون؟!..
إن مَن يتقن نقل الخوف.. ويتعامى عن الأمل.. ومَن يعظم الهفوات.. ويغض الطرف عن الإنجازات.. ليس وطنياً.. مهما زعم.. ومهما ادعى.. بل هو معولٌ ينخر أساس الوطن.. من حيث لا يدري.. ولن أدخل هنا في النوايا..
واعلموا.. أن مَن قال إن الناس قد هلكوا.. فهو أهلكهم.. ومَن بالغ في سوداوية المشهد.. كأنه يمهد لخرابٍ لا يُبقي ولا يذر.. ومَن ظن أن التشكيك هو طريق الإصلاح.. فقد ضل سواء السبيل.. وسار نحو دروبٍ مظلمةٍ تبتلع أصحابها.. قبل أن تبتلع الوطن..
الوطن ليس روايةً نرويها حين نغضب.. ولا قصيدةً ننظمها حين نطرب.. ولا عدواً نطعنه حين نختلف.. الوطن حياةٌ بأكملها.. ومهما اشتدت الخلافات.. فإنَ نقدنا يجب أن يبقى معجوناً بحب الوطن.. ساعياً لبنائه.. لا لهدمه..
الثقة بالمؤسسات الراسخة.. كالقوات المسلحة.. والأجهزة الأمنية.. والقضاء.. ومؤسسة العرش.. ليست ترفاً.. ولا تملقاً.. ولا تسحيجاً كما يُطلِق عليه مَن لا يعرف قيمتها.. بل صمام الأمان.. حين تضطرب الأرض تحت الأقدام.. وهذه المؤسسات هي السد الأخير.. وهي أمل الشعوب حين تضيق السبل..
الانتماء الحقيقي.. أن ندعو للإصلاح.. دون أن نحطّم.. أن نزرع الأمل.. دون أن نغرس الهلع.. أن نرعى جسور الثقة.. كي تمتد.. لا أن نحطمها بغواية حاقدين.. أو غفلة جاهلين.. أن يكون حبنا للأردن.. نبراسنا الذي لا يخبو.. وميثاقنا الذي لا يُنقض مهما ادلهمت الخطوب..
إن مَن يلبس عباءة المحبة والانتماء.. وهو يغرس خناجر الخوف في ظهور الناس.. أخطر على الأوطان من أعدائها الظاهرين.. فهو ينخر الجسد من الداخل.. وهو يبتسم.. ويبث السم في العروق.. وهو يتغنى بالدواء..
فليحذر كل واحدٍ منا.. أن يكون سهماً طائشاً في خاصرة وطنه.. وهو يظن أنه يحسن صنعاً.. وليعلم أن الأوطان لا تنهض بجلد الذات.. ولا بنشر اليأس.. بل بإحياء الأمل.. وتقوية الإرادة.. والنقد البناء..
الأردن.. ليس وطناً عابراً.. ولا رقعة جغرافية تتقاذفها المصالح.. الأردن تاريخٌ مجيدٌ.. وعزٌّ عريقٌ.. ودماءُ شهداءَ سقت ترابه.. وأرواح رجالٍ ونساءٍ.. حفظوا كيانه بإيمانٍ راسخٍ لا تهزه العواصف..
فكن أردنياً بحق.. لا بالهتاف.. ولا بالشعارات.. بل بالفعل.. والإخلاص.. والوفاء.. واجعل حبك للأردن نوراً يبدد الظلمات.. وعماراً يعلو فوق الخراب.. وإياك أن تكون معولاً يهدم.. وأنت تحسب أنك تبني..
وكونوا على يقين.. بأن الناس تحترم العدو المناصب لهم العداء جهاراً.. وتحتقر مَن يُظهر لهم المودة والموالاة.. وباطنه حقدٌ خيانة..